فهؤلاء يقولون : إنما حدثت [3] الحوادث شيئا بعد شيء لما يقوم بذات الرب من الأسباب الموجبة لذلك ، فلا يثبتون أمورا متجددات مختلفة [ ص: 349 ] عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل كما قال أولئك ، بل وافقوا قول أرسطو الذين يثبتون ما يقوم بذات الرب من الصفات والأفعال ، ويقولون : إن الحادث المعين إنما حدث لما حصلت علته التامة التي لم تتم إلا عند حدوثه ، وتمام العلة كان بما يحدثه الرب تعالى وما يقوم به من إرادته وأفعاله ، أو غير ذلك أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل [4] مما يقولونه في هذا المقام .
ولهذا يقولون : إنه ، ويقولون إن من نفى ذلك من أصحابنا وغيرهم فلم ينفه بدليل عقلي دل على ذلك ، بل لمجرد تنزيه وإجلال مجمل ، وإنه يجب التنزيه والإجلال من هذا التنزيه والإجلال . لا يمكن أن يكون الرب مدبرا لهذا العالم إلا على قولنا بحدوث الحوادث فيه من الإرادات والعلوم وغيرها
فإذا قيل لهؤلاء : فعند حدوث الحادث [5] الثاني لا بد من وجود العلة التامة ، ولا يكفي عدم الأول .
قالوا [6] : بل حصل من كمال الإرادة الجازمة والقدرة التامة ما أوجب حدوث المقدور ، ولا نقول إن حال الفاعل [7] قبل وبعد واحد لم يتجدد أمر يفعل به الثاني ، [ بل تتنوع ] [8] أحوال الفاعل ، ونفسه هي الموجبة لتلك الأحوال القائمة به ، لكن وجود الحال الثاني مشروط بعدم ما [ ص: 350 ] يضاده ، ونفس الفاعل هي الموجبة للأمور الوجودية الموجبة للحال الثاني .
فواجب الوجود لا يحتاج ما يحدث عنه أن يضاف إلى غيره ، كما في الممكنات ، بل نفسه الواجبة هي الموجبة لكل ما يحدث عنه ، وهو سبحانه الفاعل للملزوم ولوازمه ، والفاعل لأحد المتنافيين [9] عند عدم الآخر ، وهو على كل شيء قدير .
لكن اجتماع الضدين ليس بشيء باتفاق العقلاء ، بل هو قادر على تحريك الجسم بدلا عن تسكينه ، وعلى تسكينه بدلا عن تحريكه ، وعلى تسويده [10] بدلا عن تبييضه ، وعلى تبييضه [11] بدلا عن تسويده ، وهو يفعل أحد الضدين دون الآخر إذا حصلت إرادته التامة مع قدرته الكاملة ، ونفسه هي الموجبة لذلك كله ، وإن كان فعلها للأول شرطا في حصول الثاني ، فليست في تلك مفتقرة إلى غيرها ، بل كل ما سواها فقير إليها ، وهي غنية عن كل ما سواها .
وهؤلاء تخلصوا مما ورد على من قبلهم ومن فساد تمثيلهم ، وكان هؤلاء إذا مثلوا قولهم بما يعقل [12] من حركة الحيوان والشمس ، لا يرد عليهم من الفرق والنقض وغير ذلك [ ما يرد على ] [13] من قبلهم .
لكن هؤلاء [14] يقال لهم : من أين لكم قدم شيء من العالم ، وليس في [ ص: 351 ] العقل ما يدل على [ شيء من ] [15] ذلك ؟ وأنتم فجميع ما تذكرونه أنتم وأمثالكم إنما يدل على دوام الفعل ، لا على دوام فعل معين ، ولا مفعول معين ، فمن أين لكم دوام الفلك أو مادة الفلك [16] أو العقول أو النفوس أو غير ذلك ، مما يقول القائلون بالقدم : إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا للرب تعالى قديما بقدمه أبديا بأبديته ؟ .
فيخاطبون أولا مخاطبة المطالبة بالدليل ، وليس لهم على ذلك دليل صحيح أصلا [17] ، بل إنما طمعوا في مناظرتهم من أهل الكلام والفلسفة [18] الذين قالوا : إن جنس الكلام والفعل صار ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير تجدد شيء ، وصار الفاعل قادرا على ذلك بعد أن لم يكن ، وأنه يحدث الحوادث لا في زمان ، وإنه لم يزل القديم معطلا عن الفعل والكلام ، لا يتكلم ولا يفعل من الأزل ، إلى أن تكلم وفعل [19] ، ثم يقول كثير منهم : إنه يتعطل عن الفعل والكلام فتفنى الجنة والنار ، أو تفنى حركتهما ، كما قاله في فناء الجنة والنار ، وكما قاله الجهم بن صفوان أبو الهذيل [ العلاف ] [20] في فناء الحركات . وجعلوا مدة فعل الرب وكلامه مدة في غاية القلة بالنسبة إلى الأزل والأبد .
[ ص: 352 ] فطمع هؤلاء [21] في هؤلاء المبتدعين من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم [22] في أصولهم ، وأقاموا [23] الشناعة على أهل الملل بسبب هؤلاء المتكلمين والمبتدعين [24] ، وظنوا أن لا قول إلا قول هؤلاء المبتدعين ، أو قول أولئك الفلاسفة الملحدين [25] ، ورأوا أن العقل يفسد قول هؤلاء المبتدعين ، ورأوا السمع إلى هؤلاء المبتدعين أقرب وعن الملحدين أبعد ، فقالوا : إن الأنبياء ضربوا الأمثال وخيلوا ، ولم يمكنهم الإخبار بالحقائق . ودخلوا من باب الإلحاد وتحريف الكلم عن مواضعه بحسب ما أنكروه من السمعيات ، وإن كان أولئك الفلاسفة الذين نفوا صفات الرب وأفعاله القائمة به - الذين قبل هؤلاء - أعظم إلحادا وتحريفا للكلم عن مواضعه ، من هؤلاء الذين أثبتوا الصفات والأمور الاختيارية القائمة به ، وقالوا مع ذلك [26] بقدم العالم .
وكلتا [27] الطائفتين خرجت عن صريح المعقول ، كما خرجت عن صحيح المنقول ، بحسب ما أخطأته في هذا الباب ، وكل من أقر بشيء من الحق كان ذلك أدعى له إلى قبول غيره ، وكان يلزمه من قبوله ما لم يلزم من لم يعرف ذلك الحق ، وكان القول بنفي الصفات والأفعال [ ص: 353 ] القائمة بالرب باختياره [28] ينافي كونه فاعلا ومحدثا .
ولهذا لما ذكر في " إشاراته " أقوال القائلين بالقدم والحدوث ، لم يذكر إلا قول من أثبت قدماء مع الله [ تعالى ] ابن سينا [29] غير معلولة ، كالقول الذي يحكى عن ذيمقراطيس بالقدماء الخمسة - واختاره ابن زكريا المتطبب [30] وقول المجوس القائلين بأصلين قديمين ، وقول المتكلمين من المعتزلة ونحوهم ، وقول أصحابه ، فلم يذكر قول أئمة الملل ولا أئمة الفلاسفة الذين أثبتوا ما يقوم بالرب من الأمور الاختيارية ، وأنه لم يزل متكلما [ بمشيئته ] [31] إذا شاء فعالا بمشيئته ، وذكر حجج هؤلاء وهؤلاء ، ثم أمر الناظر [32] أن يختار أي القولين ترجح ، مع تمسكه بالتوحيد الذي هو عنده نفي الصفات ، فإن هذا جعله أصلا متفقا عليه بينه وبين خصومه [33] .
واعترض [34] عليه الرازي بأن مسألة الصفات لا تتعلق بمسألة حدوث العالم . وليس الأمر كما قاله الرازي ، بل ، ومع نفي الصفات مما يقوي شبهة [ ص: 354 ] القائلين بالقدم [35] إثبات الصفات والأفعال القائمة به يتبين فساد أدلتهم إلى الغاية ، بل فساد قولهم ، مع [ أن ] [36] نفي الصفات يدل على فساد قوله ، أكثر مما يدل على فساد قول منازعيه .
ولكن نشأ بين ( * المتكلمين النفاة للصفات ، ابن سينا نشأ بين الكلابية ، وابن رشد وأبو البركات نشأ ببغداد بين * ) [37] علماء السنة [ والحديث ] [38] ، فكان كل من هؤلاء بعده عن الحق بحسب بعده عن معرفة آثار الرسل ، وقربه من الحق بحسب قربه من ذلك .
وهؤلاء المتفلسفة رأوا ما قاله أولئك في مسألة حدوث العالم باطلا ، ورأوا أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بقي قولهم ، وجعلوا القول بدوام الفاعلية مجملا ، كما جعل أولئك قولهم : " إن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث " مجملا ، فقول هؤلاء أوجب [ أن ] [39] ظن كثير ممن سمع قول هؤلاء امتناع كون الرب [ تعالى ] [40] لم يزل متكلما إذا شاء ، إذ لم يفرقوا بين النوع والعين ، وقول أولئك أوجب أن ظن كثير [ ممن ] [41] سمع قولهم دوام الفلك أو شيء من العالم ، إذ لم يفرقوا بين النوع والعين أيضا .
[ ص: 355 ] ودوام الفاعلية ( * مجمل يراد به دوام الفاعلية المعينة ، ودوام الفاعلية * ) [42] المطلقة ، ودوام الفاعلية [43] العامة . ومعلوم أن دوام الفاعلية العامة وهو دوام [44] المفعولات كلها مما لا يقوله عاقل ، ودوام الفاعلية المعينة لمفعول معين مما ليس لهم عليه دليل أصلا ، بل الأدلة العقلية تنفيه كما نفته [45] الأدلة السمعية .
وأما دوام الفاعلية المطلقة فهذه لا تثبت قولهم ، بل إنما تثبت خطأ أولئك النفاة الذين خاصموهم من أهل الكلام والفلسفة ، ولا يلزم من بطلان هذا القول صحة [ القول ] [46] الآخر إلا إذا لم يكن إلا هذان القولان . فأما إذا كان هناك قول ثالث لم يلزم صحة أحد القولين ، فكيف إذا كان ذلك الثالث هو موجب الأدلة العقلية والنقلية ؟ !
والمقصود هنا : أن كلتا [47] الطائفتين التي قالت بقدم الأفلاك ملحدة ، سواء قالت بقيام الصفات والأفعال بالرب أو لم تقل ذلك ، فهؤلاء الفلاسفة مع كونهم متفاضلين في الخطأ والصواب في العلوم الإلاهية ، إنما ردهم المتوجه [48] لهم على [49] البدع التي أحدثها من أحدثها من أهل الكلام ، ( * ونسبوها إلى الملة .
[ ص: 356 ] وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام * ) [50] ، فمنهم من ظن أن ذلك من الملة ، ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره ، فجعلوا يردون من كلام المتكلمين ما لم يكن معهم فيه سمع ، وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين : إما أن يقروه باطنا وظاهرا إن وافق معقولهم ، وإلا ألحقوه بأمثاله وقالوا : إن الرسل تكلمت به [51] على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة .
ونحوه يسلكون هذه الطريقة ، ولهذا كان هؤلاء أقرب إلى الإسلام من وابن رشد وأمثاله ، وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ويستحلون محرماته ، وإن كان في كل من هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ، ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك . ابن سينا
ولهذا في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ومسوغا للقولين ، وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل ابن رشد . وقد رد على كان أبي حامد في " تهافت التهافت " ردا أخطأ في كثير منه ، والصواب مع أبي حامد ، وبعضه جعله من كلام لا من كلام سلفه ، وجعل الخطأ فيه من ابن سينا ، وبعضه استطال فيه على ابن سينا أبي حامد ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف ؛ لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة ، مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة ، وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام .
[ ص: 357 ] وقد تكلمت على ذلك ، وبينت تحقيق ما قاله أبوحامد [ في ذلك ] [52] من الصواب الموافق لأصول الإسلام ، وخطأ ما خالفه من كلام وغيره من الفلاسفة ، وأن ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسنة لا يرد بل يقبل ، وما قصر فيه ابن رشد أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة فيمكن رده بطريق أخرى يعان بها أبو حامد على قصده الصحيح ، وإن كان هذا وأمثاله إنما استطالوا عليه بما وافقهم عليه من أصول فاسدة ، وبما [53] يوجد في كتبه من الكلام الموافق لأصولهم ، وجعل هذا وأمثاله ينشدون فيه [54]
يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن وإن لقيت معديا فعدناني
[55] ولهذا جعلوا [56] كثيرا من كلامه برزخا بين المسلمين والفلاسفة المشائين ، فالمسلم يتفلسف به على طريقة المشائين تفلسف مسلم ، والفيلسوف يسلم به إسلام فيلسوف ، فلا يكون مسلما محضا ولا فيلسوفا محضا على طريقة المشائين .وأما نفي الفلسفة مطلقا أو إثباتها فلا يمكن ، إذ ليس للفلاسفة مذهب معين ينصرونه ، ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات والشرائع ، بل وفي الطبيعيات والرياضيات ، بل ولا في كثير من المنطق ، ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيات المشاهدة [ ص: 358 ] والعقليات التي لا ينازع فيها أحد . ومن حكى عن [ جميع ] [57] الفلاسفة قولا واحدا في هذه الأجناس ، فإنه غير عالم بأصنافهم واختلاف مقالاتهم ، بل حسبه النظر في طريقة المشائين أصحاب أرسطو كثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي [58] وبرقلس [59] من القدماء ، وكالفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وأبي البركات ونحوهم من المتأخرين . وإن كان لكل من هؤلاء في الإلهيات والنبوات والمعاد قول لا ينقل عن سلفه المتقدمين ، إذ ليس لهم في هذا الباب علم تستفيده الأتباع ، وإنما عامة علم القوم في الطبيعيات ، فهناك يسرحون ويتبجحون ، وبه بنحوه [60] عظم من عظم أرسطو ، واتبعوه ؛ لكثرة كلامه في الطبيعيات وصوابه في أكثر ذلك ، فأما [61] الإلهيات فهو وأتباعه من أبعد الناس عن معرفتها .
وجميع ما يوجد في كلام هؤلاء وغيرهم من العقليات الصحيحة ليس فيه ما يدل على خلاف ما أخبرت به الرسل ، وليس لهم أصلا دليل ظني فضلا عن قطعي على قدم الأفلاك ، بل ولا على قدم شيء منها ، وإنما عامة أدلتهم أمور مجملة تدل على الأنواع العامة ، لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم . فما أخبرت به الرسل أن الله خلقه : كإخبارها أن الله [ ص: 359 ] خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، لا يقدر أحد من الناس أن يقيم دليلا عقليا صحيحا على نفي ذلك .
وأما الكلام الذي يستدل به المتكلمون في الرد على هؤلاء وغيرهم فمنه صواب ومنه خطأ ، ومنه ما يوافق الشرع والعقل ومنه ما يخالف ذلك . وبكل حال فهم أحذق في النظر والمناظرة والعلوم الكلية الصادقة وأعلم بالمعقولات المتعلقة بالإلهيات [62] ، وأكثر صوابا وأسد قولا من هؤلاء المتفلسفة ، والمتفلسفة في الطبيعيات والرياضيات [63] أحذق ممن لم يعرفها كمعرفتهم ، مع ما فيها من الخطأ .
والمقصود هنا أن يقال لأئمتهم وحذاقهم الذين ارتفعت عقولهم ومعارفهم في الإلهيات عن كلام أرسطو وأتباعه ، وكلام وأمثاله : ما الموجب أولا لقولكم بقدم شيء من العالم ، وأنتم لا دليل لكم على قدم شيء من ذلك ؟ . ابن سينا
وأصل الفلسفة عندكم مبني على الإنصاف واتباع العلم [64] ، والفيلسوف هو محب الحكمة ، والفلسفة محبة الحكمة ، وأنتم إذا نظرتم في كلام كل من تكلم في هذا الباب وفي غير ذلك لم تجدوا في ذلك ما يدل على قدم شيء من العالم ، مع علمكم أن : وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون بأن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن واليهود والنصارى وغيرهم .