الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 360 ] وذلك [1] القول بحدوث هذا العالم هو قول أساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو ، بل هم يذكرون أن أرسطو أول من صرح بقدم الأفلاك ، وأن المتقدمين قبله من الأساطين كانوا يقولون : إن هذا العالم محدث : إما بصورته فقط ، وإما بمادته وصورته ، وأكثرهم يقولون بتقدم [2] مادة هذا العالم على صورته .

                  وهذا [3] موافق لما أخبرت به الرسل [ صلوات الله عليهم ] [4] ، فإن الله أخبر أنه : خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [ سورة هود : 7 ] [5] .

                  وأخبر أنه : استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [ سورة فصلت : 11 ] .

                  وقد ثبت [6] في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه [7] على الماء " [8] .

                  [ ص: 361 ] وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - [9] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السماوات والأرض " ، وفي رواية : ثم خلق السماوات والأرض [10] . والآثار متواترة عن الصحابة والتابعين بما يوافق القرآن والسنة من أن الله خلق السماوات من بخار الماء الذي سماه [ الله ] [11] دخانا .

                  وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني [12] وغيره . أحدهما : أنه هو العرش ، والثاني : أنه هو القلم . ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء ، فكان العرش مخلوقا قبل القلم . قالوا والآثار المروية أن : " أول ما خلق الله [ ص: 362 ] القلم " [13] ، معناها من هذا العالم . وقد أخبر الله أنه خلقه في ستة أيام ، فكان حين خلقه زمن يقدر به [14] خلقه ينفصل إلى أيام ، فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ، ويخلق في هذا العالم الليل والنهار .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته عام حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان [15] " . وفي [ ص: 363 ] الصحيح عن عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه [16] قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم [17] .

                  وهكذا في التوراة [18] [ ما يوافق ] [19] خبر الله [20] في القرآن ، وأن الأرض كانت مغمورة بالماء ، والهواء يهب [21] فوق الماء ، وأن في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض ، وأنه خلق ذلك في أيام . ولهذا قال من قال من علماء أهل الكتاب : ما ذكره الله في التوراة يدل على أنه خلق هذا العالم من مادة أخرى ، وأنه خلق ذلك في زمان [22] قبل أن يخلق الشمس والقمر .

                  وليس فيما أخبر [ الله تعالى ] به [23] في القرآن وغيره أنه خلق السماوات والأرض من غير مادة ، ولا أنه خلق الإنس أو الجن أو الملائكة [24] من غير مادة ، بل يخبر الله أنه خلق ذلك من مادة ، وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى ، كما خلق الإنس [25] من آدم وخلق آدم من طين ، وفي صحيح [ ص: 364 ] مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار [26] ، وخلق آدم مما وصف لكم " [27] .

                  والمقصود هنا أن المنقول عن أساطين الفلاسفة القدماء لا يخالف ما أخبرت به الأنبياء من خلق هذا العالم من مادة ، بل المنقول عنهم أن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن .

                  وأما قولهم في تلك المادة : هل هي قديمة الأعيان ، أو محدثة بعد أن لم تكن ، أو محدثة من مادة أخرى بعد مادة ؟ قد تضطرب النقول عنهم في هذا الباب ، والله أعلم بحقيقة ما يقوله كل من هؤلاء ، فإنها أمة عربت كتبهم ، ونقلت من لسان إلى لسان ، وفي مثل ذلك قد يدخل من الغلط والكذب ما لا يعلم حقيقته . ولكن ما تواطأت به النقول عنهم يبقى [28] مثل المتواتر ، وليس لنا غرض معين [29] في معرفة قول كل واحد منهم ، بل : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون . [ سورة البقرة : 134 ، 141 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية