الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  لكن الذي لا ريب فيه أن [ هؤلاء ] [1] أصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ، ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني ، وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد .

                  [ ص: 365 ] وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم ، علم أنهم مخالفون لصريح المعقول ، كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول ، وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل ، وهذا هو المقصود في هذا الباب .

                  ثم إنه إذا قدر أنه [2] ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين ، فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم عن خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم ، والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به [3] ، وتبين أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها ، وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفوس [4] ويشقيها منهم ، وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة ، ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة ، وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا ، وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك .

                  ولكن [5] سلفهم أكثروا الكلام في ذلك ؛ لأنهم لم يكن عندهم من آثار الرسل ما يهتدون به إلى توحيد الله وعبادته وما ينفع في الآخرة ، وكان [ ص: 366 ] الشرك مستحوذا عليهم بسبب السحر والأحوال الشيطانية ، وكانوا ينفقون أعمارهم في رصد الكواكب ليستعينوا بذلك على السحر والشرك ، وكذلك الأمور الطبيعية . وكان منتهى عقلهم أمورا عقلية كلية ، كالعلم بالوجود المطلق ( * وانقسامه إلى علة ومعلول وجوهر وعرض ، وتقسيم الجواهر ، ثم تقسيم الأعراض . وهذا هو عندهم الحكمة العليا والفلسفة الأولى ، ومنتهى ذلك العلم بالوجود المطلق * ) [6] الذي لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان .

                  ومن هنا دخل من سلك مسلكهم من المتصوفة المتفلسفة كابن عربي [7] وابن سبعين [8] والتلمساني [9] وغيرهم ، فكان منتهى معرفتهم [ ص: 367 ] الوجود المطلق . ثم ظن من ظن منهم أن ذلك هو الوجود الواجب ، وفي ذلك [10] من الضلال ما قد بسط في غير هذا الموضع [11] .

                  وجعلوا غاية سعادة النفس أن تصير عالما معقولا [12] مطابقا للعالم الموجود ، وليس في ذلك إلا مجرد علوم مطلقة ، ليس فيها علم بموجود معين ، لا بالله ولا بالملائكة ولا بغير ذلك . وليس فيها محبة لله ولا عبادة لله [13] فليس فيها علم نافع ، ولا عمل صالح ، ولا ما ينجي النفوس من عذاب الله [14] فضلا على أن يوجب لها السعادة . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع [15] ، وإنما جاء ذكره هنا بالعرض ؛ لننبه على أن من عدل عن طريق المرسلين فليس معه في خلافهم لا معقول صريح ، ولا منقول صحيح ، وأن من قال بقدم العالم أو شيء منه ، فليس معه إلا مجرد الجهل والاعتقاد الذي لا دليل عليه ، وهذا الخطاب كاف في هذا الباب ، وتفصيله مذكور في غير هذا الموضع .

                  وقد سلك هذا المسلك غير واحد من أهل الملل المسلمين واليهود

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية