ولهذا كان الذين يقولون بامتناع شيء من الحوادث في الأزل ، يقولون : إن [1] في الأزل ممتنع ، لا يقولون بأنه ممكن ، وأنه يمكن مقارنة مراده له . حصول شيء من الإرادات
لكن أورد الناس عليهم أنه إذا كان نسبة جميع الأوقات والحوادث إلى الإرادة الأزلية نسبة واحدة ، فترجيح أحد الوقتين - أو ما يقدر [2] فيه الوقت بالحدوث - ترجيح بلا مرجح ، وتخصيص لأحد المتماثلين بلا مخصص .
[ ص: 391 ] وهذا الكلام لا يقدح في مقصودنا هنا ، فإنا لم ننصر [3] هذا القول ، ولكن بينا امتناع قدم شيء من العالم على كل تقدير ، وأن دوام الحوادث سواء كان ممكنا أو ممتنعا ، فإنه يجب حدوث كل شيء من العالم على التقديرين [4] ، وأن الإرادة سواء قيل بوجوب مقارنة مرادها لها أو بجواز تأخره عنها ، يلزم حدوث كل شيء من العالم على كل من التقديرين [5] .
فإن القائلين بتأخر مرادها ، إنما قالوا ذلك فرارا من القول بدوام الحوادث ووجود حوادث لا أول لها . وعلى هذا التقدير فيلزم حدوث العالم ، وإلا فلو جاز دوام الحوادث ، لجاز عندهم وجود المراد في الأزل ، ولو جاز ذلك لم يقولوا بتأخر المراد عن الإرادة القديمة الأزلية ، مع ما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر [ بلا مرجح ] [6] وما في ذلك من الشناعة عليهم ، ونسبة كثير من العقلاء إلى أنهم خالفوا صريح المعقول .
فإنهم إنما صاروا إلى هذا القول [7] ؛ لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها ، فاحتاجوا لذلك أن يثبتوا إرادة قديمة أزلية يتأخر عنها المراد ، ويحدث بعد ذلك من غير سبب حادث ، واحتاجوا أن يقولوا : إن نفس الإرادة تخصص أحد المتماثلين على الآخر .
وإلا فلو اعتقدوا جواز دوام الحوادث وتسلسلها ، لأمكن أن يقولوا بأنه [ ص: 392 ] تحدث الإرادات والمرادات ، ويقولون بجواز قيام الحوادث بالقديم ، ولرجعوا عن قوله : ( * بأن [8] نفس الإرادة القديمة تخصص أحد المثلين في المستقبل ، وعن قولهم * ) [9] بحدوث الحوادث بلا سبب حادث ، وكانوا على هذا التقدير لا يقولون بقدم شيء من العالم ، بل يقولون : إن كل ما سوى الله فإنه حادث كائن [10] بعد أن لم يكن .
وكان هذا لازما على هذا التقدير ؛ لأنه حينئذ إذا لم يجز حدوث شيء من الحوادث إلا بسبب [ حادث ] [11] ، ولم يترجح أحد الوقتين بحدوث شيء فيه إلا بمرجح يقتضي ذلك ، لا يكون تأخر المراد عن الإرادة إلا لتعذر المراد ، [ إذ ] [12] لو كان [ المراد ] [13] ممكنا أن يقارن الإرادة وممكنا أن يتأخر عنها ، لكان تخصيص أحد الزمانين بالإحداث تخصيصا بلا مخصص .
فعلم أنه يجب أحد الأمرين على هذا التقدير : وجوب [14] مقارنة المراد للإرادة أو امتناعه [15] ، وأنه يجب مقارنته للإرادة إذا كان ممكنا ، وأنه لا يتأخر إلا لتعذر مقارنته : إما [16] لامتناعه في نفسه ، وإما لامتناع لوازمه .
[ ص: 393 ] وامتناع اللازم يقتضي امتناع الملزوم ، لكن يكون امتناعه لغيره لا لنفسه . كما يقول المسلمون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فما شاء [ الله ] وجب [17] كونه بمشيئته لا بنفسه ، وما لم يشأ يمتنع كونه لا بنفسه بل لأنه لا يكون إلا بمشيئته ، فإذا لم يشأ امتنع كونه .
وإذا كان على هذا التقدير أحد الأمرين لازما : إما مقارنة المراد [ للإرادة ] [18] ، وإما امتناعه لنفسه أو لغيره ، دل ذلك على أنه لو كان شيء من العالم يمكن أن يكون قديما لوجب ( 3 أن يكون قديما لوجوب 3 ) [19] مقارنته له في الأزل . إذ التقدير أنه لا بد من وجوب المقارنة أو امتناع المراد ، فإن كان المراد ممكنا في الأزل لزم وجوب المقارنة [20] ، لكن وجوب المقارنة ممتنع ؛ لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث كما تقدم ، فلزم القسم الآخر : وهو امتناع شيء من المراد المعين في الأزل ، وهو المطلوب .
فأما إذا قيل بأنه يجب - كما يقول [ ذلك ] كثير تأخر المراد عن الإرادة [21] من أهل الكلام - فبتقدير كونه مريدا يمتنع قدم شيء من العالم ، وهو المطلوب .
فتبين حدوث كل ما سوى الله على كل تقدير ، وهو المطلوب
واعلم أن من فهم هذه الطريق [22] استفاد بها أمورا : [ ص: 394 ] أحدها : ، حتى إذا قدر أن هناك موجودا سوى الأجسام - كما يقول من يثبت العقول والنفوس من المتفلسفة والمتكلمة : إنها جواهر قائمة بأنفسها وليست أجساما - فإن هذه الطريق ثبوت حدوث كل ما سوى الله [23] يعلم بها حدوث ذلك .
وطائفة من متأخري أهل الكلام - كالشهرستاني [24] . والرازي والآمدي وغيرهم - قالوا : إن قدماء أهل الكلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه ، ودليلهم على حدوث الأجسام لا يتناول هذه .
وقد بين في غير هذا الموضع أن هؤلاء النظار - كأبي الهذيل والنظام [25] والهشامين [26] وابن كلاب وابن كرام والأشعري والقاضي أبي بكر [27] [ وأبي المعالي ] [ ص: 395 ] [28] وأبي علي [29] وأبي هاشم وأبي الحسين البصري [30] وأبي بكر بن العربي [31] وأبي الحسن التميمي و [ والقاضي أبي يعلى [ ص: 396 ] أبي الوفاء ] بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني [32] وغير هؤلاء [33] - يثبتون [34] امتناع وجود [35] موجود ممكن قائم بنفسه لا يشار إليه ، فبينوا بطلان ثبوت تلك المجردات في الخارج ، لكن منهم من أبطل ثبوت ما لا يشار إليه مطلقا ، ومنهم من أبطل ذلك في الممكنات .
ومما يستفاد بهذه الطريق التي قررناها : الخلاص عن إثبات الحدوث بلا سبب حادث ، والخلاص عن نفي ما يقوم بذات الله من صفاته وأفعاله .
ومما يستفاد بذلك : أنها برهان باهر على بطلان قول القائلين بقدم العالم أو شيء منه ، وهو متضمن الجواب [36] عن عمدتهم .
ومما يستفاد بذلك : الاستدلال على المطلوب من غير احتياج إلى الفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار . وذلك أن كثيرا من أهل النظر غلطوا في الفرق بين هذا وهذا ، من المعتزلة والشيعة ، وصار كثير من الناس كالرازي وأمثاله مضطربين في هذا المقام ، فتارة يوافقون المعتزلة على الفرق وتارة يخالفونهم . وإذا خالفوهم فهم مترددون بين أهل السنة وبين الفلاسفة أتباع أرسطو .
وأصل ذلك أنا نعلم أن القادر المختار يفعل بمشيئته وقدرته ، لكن هل يجب أم لا ؟ . وجود المفعول عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة
[ ص: 397 ] فمذهب الجمهور من أهل السنة المثبتين للقدر ، وغيرهم من نفاة القدر ، أنه يجب وجود المفعول [37] عند وجود المقتضى التام ، وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة .
وطائفة [ أخرى ] [38] من مثبتة القدر : الجهمية وموافقيهم ، ومن نفاة القدر : المعتزلة وغيرهم لا توجب [39] ذلك ، بل يقولون : القادر هو الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب ، ويجعلون هذا هو الفرق بينه وبين الموجب بالذات . وهؤلاء يقولون : إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، كالجائع مع الرغيفين والهارب مع الطريقين .
ثم القدرية من هؤلاء يقولون : العبد قادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح ، كما يقولون مثل ذلك في الرب . ولهذا كان [ من ] [40] قول هؤلاء القدرية : إن الله لم ينعم على أهل الطاعة بنعم [41] خصهم بها حتى أطاعوه بها [42] ، بل تمكينه للمطيع وغيره سواء ؛ لكن هذا رجح الطاعة بلا مرجح ، بل بمجرد قدرته من غير سبب أوجب ذلك ، وهذا رجح المعصية بمجرد قدرته ، من غير سبب أوجب ذلك .
الجبرية - كجهم وأصحابه - فعندهم أنه ليس للعبد قدرة ألبتة . وأما
[ ص: 398 ] يوافقهم في المعنى فيقول : ليس للعبد قدرة والأشعري [43] مؤثرة ، ويثبت شيئا يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه ، وكذلك الكسب الذي يثبته .
وهؤلاء لا [44] يمكنهم أن يحتجوا على بطلان قول القدرية بأن رجحان فاعلية العبد على تاركيته لا بد لها من مرجح - كما يفعل ذلك الرازي وطائفة من الجبرية - ولهذا لم يذكر وقدماء أصحابه هذه الحجة . الأشعري
وطائفة من الناس - كالرازي وأتباعه - إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل ، وبينوا [45] أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام ، وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام ، ونصروا [46] أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بالمرجح [ التام ] [47] . وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار ، وإبطال قولهم بالموجب بالذات ، سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبد الله بن الخطيب [48] وأمثاله [49] تجدهم يتناقضون هذا التناقض .
[ ص: 399 ] وفصل الخطاب أن يقال : إن عني [ به ] أي شيء يراد بلفظ الموجب بالذات ؟ [50] أنه يوجب بذات مجردة عن المشيئة والقدرة ، فهذه الذات لا حقيقة لها ولا ثبوت في الخارج ، فضلا عن أن تكون موجبة .
والفلاسفة يتناقضون ، فإنهم يثبتون للأول غاية ، ويثبتون العلل الغائية في إبداعه ، وهذا يستلزم الإرادة .
وإذا فسروا الغاية بمجرد العلم ، وجعلوا العلم مجرد الذات ، كان هذا في غاية الفساد والتناقض ، فإنا نعلم بالضرورة أن ، وأن العلم ليس هو مجرد الإرادة ليست مجرد العلم [51] العالم ، لكن هذا من تناقض هؤلاء الفلاسفة في هذا الباب ، فإنهم يجعلون المعاني المتعددة معنى واحدا [52] ، فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة ، ويجعلون الصفة هي نفس الموصوف ، كما يجعلون العلم هو [ نفس ] [53] العالم ، والقادر هو القدرة ، والإرادة هي المريد ، والعشق هو العاشق .
وهذا قد صرح به فضلاؤهم - وحتى المنتصرون لهم - مثل ، الذي رد على [ ابن رشد الحفيد أبي حامد ] الغزالي [54] في " تهافت التهافت [55] " وأمثاله .
وأيضا : فلو قدر وجود ذات مجردة عن المشيئة والاختيار ، فيمتنع أن يكون العالم صادرا عن موجب بالذات بهذا التفسير ؛ لأن الموجب [ ص: 400 ] بالذات بهذا الاعتبار يستلزم موجبه ومقتضاه ، فلو كان مبدع العالم موجبا بالذات بهذا التفسير ، لزم أن لا يحدث في العالم شيء ، وهو خلاف المشاهدة . فقولهم بالموجب بالذات يستلزم نفي صفاته ونفي أفعاله ونفي حدوث شيء من العالم ، وهذا كله معلوم البطلان .
وأبطل من ذلك أنهم جعلوه واحدا بسيطا ، وقالوا : إنه لا يصدر عنه إلا واحد ، ثم احتالوا في صدور الكثرة عنه بحيل تدل على عظيم [56] حيرتهم وجهلهم بهذا الباب ، كقولهم : إن الصادر الأول هو العقل الأول ، وهو موجود ، واجب بغيره ، ممكن بنفسه ، ففيه ثلاث جهات ، فصدر عنه باعتبار وجوبه عقل آخر ، وباعتبار وجوده نفس ، وباعتبار إمكانه [ فلك . وربما قالوا : وباعتبار وجوده صورة الفلك ، وباعتبار إمكانه ] [57] مادته . وهم متنازعون في النفس الفلكية : هل هي جوهر مفارق له ، [ أم ] [58] عرض قائم به [59] ؟ .
ولهذا أطنب الناس في بيان فساد كلامهم ، وذلك أن هذا الواحد الذي فرضوه لا يتصور وجوده إلا في الأذهان لا في الأعيان . ثم قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية ، وهم لو علموا ثبوتها في [ بعض ] [60] الصور ، لم يلزم أن تكون كلية إلا بقياس التمثيل ، فكيف وهم لا يعلمون واحدا صدر عنه شيء ؟ .
[ ص: 401 ] وما [61] يمثلون به من صدور التسخين عن النار والتبريد عن الماء باطل ، فإن تلك الآثار لا تصدر إلا عن شيئين : فاعل وقابل ، والأول تعالى كل ما سواه صادر عنه ، ليس هناك قابل موجود .
وإن قالوا : الماهيات الثابتة في الخارج الغنية عن الفاعل هي القابل ، كان هذا باطلا من وجوه : منها : أن هذا بناء على أصلهم الفاسد ، وهو إثبات ماهيات موجودة في الخارج مغايرة للأعيان الموجودة ، وهذا باطل قطعا . وما يذكرونه من أن المثلث [62] يتصور قبل أن يعلم وجوده لا يدل على ثبوت [63] المثلث [64] في الخارج ، بل يدل على ثبوته في الذهن ، ولا ريب في حصول الفرق بين ما في الأذهان وما في الأعيان . ومن هنا كثر غلطهم ، فإنهم تصوروا أمورا في الأذهان ، فظنوا ثبوتها في الأعيان ، كالعقول والماهيات الكلية والهيولى ونحو ذلك .
ومنها : أن الماهيات هي بحسب ما يوجد ، فكل ما وجد له عندهم ماهية ، كما يقوله من يقول : إن المعدوم شيء ، من المعتزلة والشيعة ، فلا يجوز [65] قصر الموجودات على أمور لتوهم [66] أنه لا ماهية تقبل الوجود غيرها .
[ ص: 402 ] ومنها : أن يقال : الماهيات الممكنة في نفسها لا نهاية لها .
ومنها : أن يقال : الواحد المشهود الذي تصدر عنه الآثار له قوابل موجودة ، والباري تعالى هو المبدع لوجود كل ما سواه ، فلا يعلم أمر صادر عن ممكن إلا عن شيئين فصاعدا ، مع أنه قد يكون هناك مانع يمنع التأثير [67] ، وليس في الموجودات ما يصدر عنه وحده شيء إلا الله [ تعالى ] [68] .