فقولهم : قضية كلية : إن أدرجوا فيها [ ما ] الواحد لا يصدر عنه إلا واحد [1] سوى الله فذاك لا يصدر عنه وحده شيء ، وإن لم يريدوا بها إلا الله وحده فهذا محل النزاع وموضع الدليل ، فكيف يكون المدلول عليه هو الدليل ، وذلك الواحد لا يعلمون حقيقته ولا كيفية الصدور عنه ؟ .
وأيضا : فالواحد الذي يثبتونه ، هو وجود مجرد عن الصفات الثبوتية عن [ بعضهم ] - وأتباعه كابن سينا [2] - أو عن الثبوتية والسلبية عند بعضهم ، وهذا لا حقيقة له في الخارج ، بل يمتنع تحققه في الخارج ، وإنما هو [ أمر ] [3] يقدر في الأذهان ، كما تقدر الممتنعات . ولهذا [4] كان ما ذكره في هذا الباب مما نازعه فيه ابن سينا وغيره من الفلاسفة ، وقالوا : إن هذا ليس [ هو ] قول [ أئمة ] الفلاسفة ابن رشد [5] ، وإنما ابن [ ص: 403 ] سينا وأمثاله أحدثوه ، ولهذا لم يعتمد عليه أبو البركات [ صاحب " المعتبر " ] [6] ، وهو من أقرب هؤلاء إلى اتباع الحجة الصحيحة بحسب نظره ، والعدول عن تقليد سلفهم ، مع أن أصل [7] أمرهم وحكمتهم أن العقليات لا تقليد فيها .
. وأيضا : فإذا لم يصدر [ عنه ] [8] إلا واحد - كما يقولونه في العقل الأول فذلك الصادر الأول إن كان واحدا من كل وجه ، لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد ، وهلم جرا . وإن كان فيه كثرة ما بوجه من الوجوه - والكثرة وجودية - كان قد صدر [9] عن الأول أكثر من واحد ، وإن كانت عدمية لم يصدر عنها وجود ، فلا يصدر عن الصادر الأول واحد .
وأما احتجاجهم على ذلك بقولهم : لو صدر عنه شيئان ، لكان مصدر هذا غير مصدر ذلك [10] ، ولزم التركيب .
فيقال أولا : ليس الصدور عن الباري كصدور الحرارة عن النار ، بل هو فاعل بالمشيئة والاختيار ، ولو قدر تعدد المصدر فهو تعدد أمور إضافية ، وتعدد الإضافات والسلوب ثابتة له بالاتفاق ، ولو فرض أنه تعدد صفات ، فهذا يستلزم القول بثبوت الصفات ، وهذا حق .
وقولهم : إن هذا تركيب ، والتركيب ( * ممتنع ، قد بينا [ فساده ] بوجوه [ ص: 404 ] كثيرة [ في غير هذا الموضع ] وبينا أن [11] لفظ التركيب والافتقار والجزء والغير ألفاظ مشتركة مجملة ، وأنها لا تلزم بالمعنى الذي دل الدليل على نفيه ، وإنما تلزم بالمعنى الذي لا * ) [12] ينفيه الدليل ، بل يثبته الدليل .
والمقصود هنا [13] أن الموجب بالذات إذا فسر بهذا فهو باطل ، وأما إذا فسر الموجب بالذات [ بأنه ] [14] الذي يوجب مفعوله بمشيئته وقدرته ، لم يكن هذا المعنى منافيا لكونه فاعلا بالاختيار ، بل يكون فاعلا بالاختيار ، موجبا بذاته التي هي فاعل قادر مختار ، وهو موجب بمشيئته وقدرته .
وإذا تبين أن الموجب بالذات يحتمل معنيين : أحدهما لا ينافي كونه فاعلا بمشيئته [ وقدرته ] [15] ( 5 والآخر ينافي كونه فاعلا بمشيئته وقدرته 5 ) [16] ، فمن قال : القادر لا يفعل إلا على وجه الجواز - كما يقوله من يقوله من القدرية والجهمية - يجعل الفعل بالاختيار منافيا للإيجاب ، لا يجامعه [17] بوجه من الوجوه ، ويقولون : إن القادر المختار لا يكون قادرا [ مختارا ] [18] إلا إذا فعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب .
[ ص: 405 ] والجمهور [19] من أهل السنة وغيرهم يقولون : القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ [20] لم يفعل ، لكنه إذا شاء أن يفعل مع قدرته ، لزم وجود فعله ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فإنه قادر على ما يشاء ، ومع القدرة التامة والمشيئة الجازمة يجب وجود الفعل .
ولهذا صارت الأقوال ثلاثة : . فالفلاسفة يقولون بالموجب بالذات المجردة عن الصفات ، أو الموصوف بالصفات الذي يجب أن يقارنه موجبه المعين أزلا وأبدا
والقدرية من المعتزلة وغيرهم [ من الجهمية ، ومن وافقهم من غيرهم ] [21] ، يقولون بالفاعل المختار الذي يفعل على وجه الجواز لا على وجه الوجوب [22] .
ثم منهم من يقول : يفعل لا بإرادة ، بل المريد عندهم هو الفاعل العالم . ومنهم من يقول بحدوث الإرادة ، وما يحدثه [23] من إرادة أو فعل فهو يحدثه [24] بمجرد القدرة ، فإن القادر عندهم يرجح [25] بلا مرجح . ثم القدرية من هؤلاء يقولون : يريد [26] ما لا يكون ، ويكون ما لا يريد ، وقد يشاء ما لا يكون ، ويكون ما لا يشاء ، [ بخلاف المجبرة ] [27] .
[ ص: 406 ] ، سواء قالوا بإرادة واحدة قديمة ، أو بإرادات متعاقبة ، أو بإرادات والجمهور من أهل السنة وغيرهم المثبتين للقدر والصفات ، يقولون : إنه فاعل بالاختيار ، وإذا شاء شيئا كان ، وإرادته وقدرته من لوازم ذاته [28] قديمة تستوجب حدوث إرادات أخر . فعلى كل قول [29] من هذه الأقوال الثلاثة يجب عندهم وجود مراده .
وإذا فسر الإيجاب بالذات بهذا المعنى كان النزاع لفظيا ، فالدليل الذي ذكرناه يمكن [30] تصوره [31] بلفظ الموجب بالذات ، ولفظ العلة والمعلول ، ولفظ المؤثر والأثر ، ولفظ الفاعل المختار ، وهو بجميع هذه العبارات يبين امتناع قدم شيء من العالم ، ووجوب حدوث كل ما سوى الله .
وهنا أمر آخر ، وهو أن الناس على ثلاثة أقوال . تنازعوا في الفاعل المختار : هل يجب أن تكون إرادته قبل الفعل ويمتنع مقارنتها له ؟ أم يجب مقارنة إرادته - التي هي القصد - للفعل ، وما يتقدم الفعل يكون عزما لا قصدا ؟ أم يجوز كل من الأمرين ؟
ونحن قد بينا وجوب حدوث كل ما سوى الله على كل قول [32] من الأقوال الثلاثة : قول من يوجب المقارنة ، [ وقول من يقول [33] بأن المقارنة ] [34] ممتنعة ، وقول من يجوز الأمرين .
[ ص: 407 ] وكذلك تنازعوا في القدرة : هل يجب مقارنتها للمقدور [ ويمتنع تقديمها ] [35] ؟ أم يجب تقدمها على المقدور ( 2 ويمتنع مقارنتها ؟ أم تتصف بالتقدم والمقارنة 2 ) [36] ؟ على ثلاثة أقوال أيضا [37] .
وفصل الخطاب أن ، فلا يكون [ الفعل ] الإرادة الجازمة مع القدرة التامة مستلزمة للفعل ومقارنة له [38] بمجرد قدرة متقدمة غير مقارنة ، ولا بمجرد إرادة متقدمة غير مقارنة ، بل لا بد عند وجود الأثر من وجود المؤثر التام ، ولا يكون الفعل بفاعل معدوم حين الفعل [39] ، ولا بقدرة معدومة حين الفعل ، ( 6 ولا بإرادة معدومة حين الفعل 6 ) [40] ، وقبل [ الفعل ] [41] لا تجتمع الإرادة الجازمة والقدرة التامة ، فإن ذلك مستلزم للفعل ، فلا يوجد إلا مع الفعل ، لكن قد يوجد قبل الفعل قدرة بلا إرادة ، وإرادة بلا قدرة ، كما قد يوجد عزم على أن يفعل ، فإذا حضر وقت الفعل قوي العزم فصار قصدا ، فتكون الإرادة حين الفعل أكمل مما كانت [42] قبله ، [ ] وكذلك القدرة حين الفعل أكمل مما كانت قبله [43] .
وبهذا كان العبد قادرا قبل الفعل القدرة المشروطة في الأمر التي بها [ ص: 408 ] يفارق العاجز [44] كما في قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ سورة التغابن : 16 ] ، وقوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ سورة آل عمران : 97 ] ، وقوله : فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [ سورة المجادلة : 4 ] . فإن هذه الاستطاعة لو لم تكن [ إلا ] [45] مقارنة للفعل ، لم يجب الحج على من لم يحج ، ولا وجب على من لم يتق الله أن يتقي الله ، ولكان كل من لم يصم الشهرين المتتابعين غير مستطيع للصيام ، وهذا كله خلاف هذه النصوص وخلاف إجماع المسلمين .
فمن نفى هذه القدرة من المثبتين للقدر ، وزعم أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل ، فقد بالغ في مناقضة القدرية الذين يقولون : لا تكون الاستطاعة إلا قبل الفعل .
فإن هؤلاء أخطئوا حيث زعموا ذلك ، وقالوا : إن كل ما يقدر [46] به العبد على الإيمان والطاعة فقد [47] سوى الله فيه بين المؤمن والكافر ، بل سوى بينهما في كل ما يمكن [48] أن يعطيه للعبد [49] مما به يؤمن ويطيع .
وهذا القول فاسد قطعا ، فإنه لو كانا متساويين في جميع أسباب الفعل ، لكان اختصاص أحدهما بالفعل دون الآخر ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر من غير مرجح . وهذا هو أصل هؤلاء القدرية [ ص: 409 ] الذين يقولون : إن الفاعل القادر يرجح أحد طرفي مقدوريه [50] على الآخر بلا مرجح ، وهذا باطل وإن وافقهم عليه بعض المثبتين للقدر .
وأما المثبتون للقدر المخالفون لهم في هذا الأصل ، فمنهم طائفة إذا تكلموا في مسائل القدر وخلق أفعال العباد ، ( 2 قالوا : إن القادر لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بمرجح 2 ) [51] ، لكن إذا تكلموا في مسائل فعل الله ، وحدوث العالم ، والفرق بين الموجب والمختار ، ومناظرة الدهرية ، تجد كثيرا منهم يناظرهم مناظرة من قال من القدرية والجهمية المجبرة بأن الفاعل المختار يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح .
وبهذا ظهر [52] اضطرابهم في هذه الأصول [ الكبار ] [53] ، التي يدورون فيها بين أصول القدرية والجهمية المجبرة المعطلة لحقيقة الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، ولصفة [54] الله في خلقه وأمره ، وبين أصول الفلاسفة الدهرية المشركين .