وهكذا وافقه متأخروهم كالفارابي وأمثالهما ، وهؤلاء كلهم يقولون : إن وابن سينا إنما هو حركات الأفلاك سبب الحوادث في العالم [1] ، وحركات الأفلاك حادثة عن تصورات حادثة وإرادات [2] حادثة شيئا بعد شيء ، وإن كانت تابعة لتصور كلي [ وإرادة كلية ] [3] ، كالرجل الذي يريد [ ص: 412 ] القصد إلى بلد معين ، مثل مكة مثلا ، فهذه إرادة كلية [ تتبع تصورا كليا ] [4] ، ثم إنه لا بد أن يتجدد له تصورات لما يقطعه من المسافات ، وإرادات لقطع تلك المسافات ، فكهذا حركة [5] الفلك عندهم . لكن مراده الكلي هو التشبه [6] بالأول ، ولهذا قالوا : الفلسفة هي التشبه بالأول بحسب الإمكان [7] .
فإذا [8] كان الأمر كذلك عندهم ، فمعلوم أن العلة الغائية المنفصلة عن المعلول لا تكون هي العلة الفاعلة ، وإذا كان الفلك ممكنا متحركا بإرادته واختياره ، فلا بد من مبدع [ له ] [9] أبدعه كله بذاته وصفاته وأفعاله كالإنسان ، ولا بد لهذه التصورات والإرادات والحركات الحادثة أن تنتهي إلى واجب بنفسه قديم تكون صادرة عنه ، سواء قيل : إنها صادرة بوسط أو بغير وسط .
وهؤلاء لم يثبتوا شيئا من ذلك ، بل لم يثبتوا إلا علة غائية للحركة ، [ ص: 413 ] فكان حقيقة قولهم أن جميع الحوادث من العالم العلوي والسفلي ليس لها فاعل يحدثها أصلا ، بل ولا لما يستلزم هذه الحوادث [10] [ والعناصر ] [11] ، وكل من أجزاء العالم مستلزم للحوادث [12] .
ومن المعلوم في بدائة [13] العقول أن الممكن المفتقر إلى غيره ممتنع [14] وجوده بدون واجب الوجود ، وأن الحوادث يمتنع وجودها بدون محدث . ومتأخروهم - وأمثاله - يسلمون كابن سينا [15] أن العالم كله ممكن [ بنفسه ] [16] ليس بواجب بنفسه ، ومن نازع في ذلك من غلاتهم فقوله معلوم الفساد بوجوه كثيرة ، فإن الفقر والحاجة لازمان [17] لكل جزء من أجزاء العالم ، لا يقوم منه شيء [18] إلا بشيء منفصل عنه .
وواجب الوجود مستغن عنه [19] بنفسه ، لا يفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه ، وليس في العالم شيء يكون [ هو ] [20] وحده محدثا لشيء من الحوادث ، وكل من الأفلاك له حركة تخصه ، ليست حركته عن حركة [ ص: 414 ] الأعلى حتى يقال [21] أن الأعلى هو المحدث لجميع الحركات ، ولا في الوجود شيء حادث [22] عن سبب بعينه - لا عن حركة الشمس ولا القمر ولا الأفلاك [23] ولا العقل الفعال ولا شيء مما يظن - بل أي جزء من العالم اعتبرته وجدته لا يستقل بإحداث شيء ، ووجدته إذا كان له أثر في شيء - كالسخونة التي تكون للشمس مثلا - فله مشاركون في ذلك الشيء بعينه ، كالفاكهة التي للشمس مثلا أثر في إنضاجها ثم إيباسها وتغيير ألوانها ونحو ذلك ، لا يكون إلا بمشاركة من الماء والهواء والتربة [24] وغير ذلك من الأسباب ، ثم كل من هذه الأسباب لا يتميز أثره عن أثر الآخر ، بل هما متلازمان .
فإذا قالوا : العقل الفعال للفعل [25] خلع عليه صورة عند استعداده ، [ و ] بالامتزاج [26] قبل الصورة ، مثلا كالطين [27] الذي يحدث [ فيه ] [28] عن امتزاج الماء والتراب [29] أثر ملازم لهذا الامتزاج ، لا يمكن وجود أحدهما دون الآخر ، فإذا كان المؤثر فيهما اثنين [30] لزم أن يكونا متلازمين ، لامتناع [ ص: 415 ] وجود أثر أحدهما دون [31] الآخر ، ويمتنع اثنان متلازمان كل منهما واجب الوجود ؛ لأن واجب الوجود لا يكون وجوده مشروطا بوجود غيره ، ولا تأثيره مشروطا بتأثير غيره ، إذ لو كان كذلك لكان مفتقرا إلى غيره ، فلا يكون واجبا بنفسه غنيا عما سواه ، فكل ما [32] افتقر إلى غيره في نفسه أو شيء من صفاته أو أفعاله [33] ، لا يكون مستغنيا بنفسه ، بل يكون مفتقرا إلى غيره ، [ ومن كان فقيرا إلى غيره ولو بوجه ] [34] ، لم يكن غناه ثابتا له بنفسه .
وقد علم بالاضطرار أنه لا بد من [35] وجود غني بنفسه عما سواه من [36] كل وجه ، فإن الموجود إما ممكن وإما واجب ، والممكن لا بد له من واجب ، فثبت وجود الواجب على التقديرين .
وكذلك يقال للوجود [37] : إما محدث وإما قديم ، والمحدث لا بد له من قديم ، فثبت وجود القديم على التقديرين .
وكذلك يقال : إما فقير وإما غني ، والفقير لا بد له من غني ، فثبت وجود الغني على التقديرين .
وكذلك يقال : الموجود [38] إما قيوم وإما غير قيوم ، وغير القيوم لا بد له من قيوم ، فثبت وجود القيوم على التقديرين .
[ ص: 416 ] وكذلك يقال : إما مخلوق وإما غير مخلوق ، والمخلوق لا بد له من خالق غير المخلوق ، فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين .
ثم ذلك الموجود الواجب بنفسه [ القديم ] [39] الغني بنفسه القيوم الخالق الذي ليس بمخلوق ، يمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بجهة من الجهات ، فإنه إن افتقر إلى مفعوله ، ومفعوله مفتقر إليه ، لزم الدور في المؤثرات . وإن افتقر إلى غيره ، وذلك الغير مفتقر إلى غيره ، لزم التسلسل في المؤثرات . وكل من هذين معلوم البطلان بصريح العقل واتفاق العقلاء .
فإن امتنع [40] أن يكون فاعلا [ لنفسه ، فهو يمتنع أن يكون فاعلا لفاعل ] [41] بنفسه بطريق الأولى ، وسواء عبر [42] بلفظ الفاعل أو الصانع [43] أو الخالق أو العلة أو المبدأ أو المؤثر ، فالدليل يصح بجميع هذه العبارات .
وكذلك يمتنع تقدير مفعولات ليس فيها فاعل غير مفعول ، وهو تقدير آثار ( * ليس فيها مؤثر ، وتقدير ممكنات ليس فيها واجب بنفسه ، فإن كل واحد من ذلك * ) [44] ممكن فقير ، ومجموعها مفتقر إلى كل من آحادها [45] ، فهو [ ص: 417 ] أيضا فقير ممكن ، وكلما زادت السلسلة زاد [46] الفقر والاحتياج ، وهو في الحقيقة تقدير معدومات لا تتناهى ، فإن كثرتها لا تخرجها عن كونها معدومات ، فيمتنع أن يكون فيها موجود ، وهذا كله مبسوط في موضعه .
والمقصود هنا أنه ، والفقر لا بد من وجود الموجود الغني القديم الواجب بنفسه ، الغني عما سواه من كل وجه ، بحيث لا يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه ، وكل ما في العالم فهو مفتقر إلى غيره [47] ظاهر في كل جزء من العالم لمن تدبره ، لا يحدث شيئا [48] بنفسه ألبتة ، بل لا يستغني بنفسه ألبتة ، فيمتنع أن يكون واجب الوجود .
فلا بد أن يكون الواجب القيوم الغني مباينا للعالم ، ويجب أن يثبت له كل كمال [ ممكن الوجود ] [49] لا نقص فيه ، فإنه إن لم يتصف به ( * لكان الكمال : إما ممتنعا عليه ، وهو محال : لأن التقدير أنه ممكن الوجود ، ولأن [50] الممكنات * ) [51] متصفة [52] بكمالات عظيمة ، والخالق أحق بالكمال من المخلوق ، والقديم أحق به من الحادث ، والواجب أحق به من الممكن ؛ لأنه أكمل وجودا منه ، والأكمل أحق بالكمال من غير الأكمل ، ولأن كمال المخلوق من الخالق ، فخالق الكمال أحق بالكمال ، وهم يقولون : [ ص: 418 ] كمال المعلول من كمال [53] العلة . وإذا لم يكن الكمال ممتنعا عليه ، فلا بد أن يكون واجبا له ، إذ لو كان ممكنا غير واجب ولا ممتنع لافتقر في ثبوته له إلى غيره ، وما كان كذلك لم يكن واجب الوجود بنفسه ، فما أمكن له من الكمال فهو واجب له .