وأما حجة الاستكمال [1] فقالوا : الممتنع أن يكون الرب تعالى مفتقرا  [ ص: 421 ] إلى غيره ، أو أن يكون ناقصا في الأزل  عن كمال يمكن وجوده في الأزل كالحياة والعلم . وإذا كان هو القادر الفاعل لكل شيء ، لم يكن محتاجا إلى غيره بوجه من الوجوه ، بل العلل المفعولة هي مقدورة ومرادة له . والله تعالى يلهم عباده الدعاء ويجيبهم ، ويلهمهم التوبة ويفرح بتوبتهم إذا تابوا ، ويلهمهم العمل ويثيبهم إذا عملوا ، ولا يقال : إن المخلوق أثر في الخالق [2] أو [3] جعله فاعلا للإجابة [4] والإثابة والفرح [ بتوبتهم ] [5] ، فإنه سبحانه هو الخالق لذلك كله ، له الملك وله الحمد لا شريك له في شيء من ذلك ، ولا يفتقر فيه إلى غيره . والحوادث التي لا يمكن وجودها إلا متعاقبة ، لا يكون عدمها في الأزل نقصا . 
قالوا [6]  : وأما قولهم هذا يستلزم قيام الحوادث به [7]  . 
فيقال : أولا : هذا قول من هم من أكبر شيوخ المعتزلة  والشيعة  [8]  -  كهشام بن الحكم  وأبي الحسين البصري  ومن تبعهما - وهو لازم لسائرهم ، والشيعة  المتأخرون أتباع المعتزلة البصريين  [9] في هذا الباب ، هم والمعتزلة البصريون  يقولون : إنه صار مدركا بعد أن لم يكن ، ( * لأن  [ ص: 422 ] الإدراك عندهم كالسمع والبصر إنما يتعلق بالموجود ، وهم يقولون : صار مريدا بعد أن لم يكن * ) [10]  . وأما البغداديون فإنهم وإن أنكروا الإدراك والإرادة فهم يقولون [11]  : صار فاعلا بعد أن لم يكن . قالوا : وهذا قول بتجدد أحكام له وأحوال . 
ولهذا قيل : إن هذه المسألة تلزم سائر الطوائف حتى الفلاسفة ، وقد قال بها من أساطينهم الأولين وفضلائهم المتأخرين غير واحد ، ويقال [12]  : إن [ الأساطين ] [13] الذين كانوا قبل أرسطو  أو كثيرا منهم [14] كانوا يقولون بها ، وقال بها أبو البركات  صاحب " المعتبر " وغيره ، وهو قول طوائف من أهل الكلام من المرجئة  والشيعة  [15] والكرامية  وغيرهم كأبي معاذ التومني  [16] والهشامين . 
وأما جمهور أهل السنة والحديث فإنهم يقولون بها أو بمعناها ، وإن كان منهم من لا يختار إلا [17] أن يطلق الألفاظ الشرعية ، ومنهم من يعبر  [ ص: 423 ] عن المعنى الشرعي [18] بالعبارات الدالة عليه ، مثل  حرب الكرماني  [19] ، ونقله عن الأئمة ، ومثل  عثمان بن سعيد الدارمي  [20] ، ونقله عن أهل السنة ، ومثل  البخاري  صاحب الصحيح ، [  وأبي بكر ] بن خزيمة  [21] الملقب إمام الأئمة ، ومثل أبي عبد الله بن حامد  [22] ،  وأبي إسماعيل الأنصاري  
[23] الملقب بشيخ الإسلام ، ومن لا يحصي عدده إلا الله . 
والمعتزلة  كانوا ينكرون أن يقوم بذات الله [24] صفة أو فعل ، وعبروا عن ذلك بأنه لا تقوم به الأعراض والحوادث ، فوافقهم [ أبو محمد عبد الله بن سعيد ] بن كلاب  [25] على [ نفي ] [26] ما يتعلق بمشيئته وقدرته ، وخالفهم في  [ ص: 424 ] نفي الصفات ولم يسمها أعراضا . ووافقه على ذلك  الحارث المحاسبي   [27] ، ويقال إنه رجع عن ذلك ، وبسبب مذهب  ابن كلاب  هجره  الإمام أحمد بن حنبل  ، وقيل : إنه تاب منه . 
وصار النزاع في هذا [ الأصل ] الأصل : ساقطة من ( ن ) فقط . بين طوائف الفقهاء ، فما من طائفة من أصحاب  أبي حنيفة   ومالك   والشافعي   [  وأحمد   ] إلا [ وفيهم ] من يقول [28] بقول  ابن كلاب  في هذا الأصل ، كأبي الحسن التميمي  والقاضي أبي بكر   والقاضي أبي يعلى   [  وأبي المعالي ] الجويني  [29]  وابن عقيل  وابن الزاغوني  ، وفيهم من يقول بقول جمهور أهل الحديث كالخلال  [30] وصاحبه أبي بكر عبد العزيز  [31] وأبي عبد الله بن حامد  وأبي  [ ص: 425 ] عبد الله بن منده  [32]  وأبي إسماعيل الأنصاري   وأبي نصر السجزي  [33] وأبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة  وأتباعه [34]  . 
وجماع [ القول في ] ذلك ن ، م : وجماع ذلك . أن الباري تعالى هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته  كالأفعال الاختيارية على هذين القولين ؟ . 
قال المثبتون لذلك وللتعليل : نحن نقول لمن أنكر ذلك من المعتزلة  والشيعة  ونحوهم : أنتم تقولون : [ إن الرب ] [35] كان معطلا في الأزل لا يتكلم ولا يفعل شيئا ، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب حادث أصلا ، فلزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح ، وبهذا استطالت عليكم الفلاسفة وخالفتهم أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة في ذلك ، وظننتم أنكم أقمتم الدليل على حدوث العالم بهذا ، حيث ظننتم أن ما لا يخلو عن نوع الحوادث يكون حادثا لامتناع حوادث لا نهاية لها . 
وهذا الأصل ليس معكم به كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة والتابعين ، بل الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة [ والقرابة ] وأتباعهم [36]  [ ص: 426 ] بخلاف ذلك ، والنص والعقل دل على أن كل ما سوى الله [ تعالى مخلوق ] حادث [37] كائن بعد أن لم يكن ، ولكن لا يلزم [38] من حدوث كل فرد فرد مع كون الحوادث متعاقبة [ حدوث النوع ] [39] ، فلا يلزم من ذلك أنه لم يزل الفاعل المتكلم معطلا عن الفعل [40] والكلام ، ثم حدث ذلك بلا سبب [41] ، كما لم يلزم [ مثل ] [42] ذلك في المستقبل ، فإن كل فرد فرد من المستقبلات المنقضية [43] فان ، وليس النوع فانيا . كما قال تعالى : أكلها دائم وظلها   [ سورة الرعد : 35 ] ، وقال : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد   [ سورة ص : 54 ] . فالدائم الذي لا ينفد - أي لا ينقضي - هو [44] النوع ، وإلا فكل فرد من أفراده نافد منقض ليس بدائم . 
وذلك أن الحكم الذي توصف به الأفراد إذا كان لمعنى موجود في الجملة [ وصفت به الجملة ، مثل وصف كل فرد بوجود أو إمكان أو بعدم ، فإنه يستلزم وصف الجملة ] [45] بالوجود والإمكان والعدم ؛ لأن طبيعة الجميع هي [46] طبيعة كل واحد واحد ، وليس المجموع إلا الآحاد الممكنة أو الموجودة أو المعدومة . 
 [ ص: 427 ] وأما إذا كان ما وصف به الأفراد لا يكون صفة للجملة ، لم يلزم أن يكون حكم الجملة حكم الأفراد ، كما في أجزاء البيت والإنسان [ والشجرة ] [47] ، فإنه ليس كل منها بيتا ولا إنسانا [ ولا شجرة ] [48] ، وأجزاء الطويل والعريض والدائم والممتد لا يلزم أن يكون كل منها طويلا وعريضا ودائما وممتدا [49]  . 
وكذلك إذا وصف كل واحد واحد من المتعاقبات بفناء أو حدوث ، لم يلزم أن يكون النوع منقطعا أو حادثا [50] بعد أن لم يكن ؛ لأن حدوثه معناه أنه وجد بعد أن لم يكن ، كما أن فناءه معناه أنه عدم بعد وجوده . وكونه عدم بعد وجوده ، أو وجد بعد عدمه أمر [51] يرجع إلى وجوده وعدمه ، لا إلى نفس الطبيعة الثابتة للمجموع ، كما في الأفراد الموجودة [52] أو المعدومة أو الممكنة ، فليس إذا كان هذا المعين [53] لا يدوم ، يلزم أن يكون نوعه [54] لا يدوم ؛ لأن الدوام تعاقب الأفراد ، وهذا أمر يختص به المجموع ، لا يوصف به الواحد ، وإذا حصل للمجموع بالاجتماع حكم  [ ص: 428 ] يخالف به حكم الأفراد ، لم يجب مساواة المجموع للأفراد في أحكامه . 
وبالجملة ، فما يوصف به الأفراد قد توصف به الجملة وقد لا توصف به ، فلا يلزم من حدوث الفرد حدوث النوع إلا إذا ثبت أن هذه الجملة موصوفة بصفة هذه الأفراد . 
وضابط ذلك أنه إن كان بانضمام هذا الفرد إلى هذا الفرد يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد [55] ، لم يكن حكم المجموع حكم الأفراد ، وإن لم يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد ، كان حكم المجموع حكم أفراده [56]  . 
مثال الأول : أنا إذا ضممنا هذا الجزء إلى هذا الجزء ، صار المجموع [57] أكثر وأطول وأعظم من كل فرد ، فلا يكون في مثل هذا حكم [58] المجموع حكم الأفراد . فإذا قيل : إن [59] هذا اليوم طويل ، لم يلزم أن يكون جزؤه طويلا . وكذلك إذا قيل : هذا الشخص أو الجسم [60] طويل أو ممتد ، أو قيل : إن هذه الصلاة طويلة ، أو قيل : [ إن ] [61] هذا النعيم دائم ، لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائما . 
قال الله تعالى : أكلها دائم وظلها   [ سورة الرعد : 35 ] ، وليس كل جزء  [ ص: 429 ] من أجزاء [62] الأكل دائما . وكذلك في الحديث [63] الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أحب العمل إلى الله أدومه  " [64] وقول  عائشة   [ رضي الله عنها ] [65]  : وكان عمله ديمة [66]  . فإذا كان عمل المرء دائما ، لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائما . 
 [ ص: 430 ] وكذلك إذا قيل : هذا المجموع عشر أوقية أو نش [67] أو إستار [68] ، لم يلزم أن يكون كل جزء [69] من أجزائه عشر أوقية ولا نشا ولا إستارا [70] ؛ لأن المجموع حصل بانضمام الأجزاء بعضها إلى بعض ، والاجتماع ليس موجودا [71] للأفراد . 
وهذا بخلاف ما إذا قيل [72]  : كل جزء من الأجزاء معدوم أو موجود أو ممكن أو واجب أو ممتنع ، فإنه يجب في المجموع أن يكون معدوما أو موجودا أو ممكنا أو واجبا أو ممتنعا ، وكذلك إذا قلت : كل واحد من الزنج أسود ، فإنه يجب أن يكون معدوما أو موجودا أو ممكنا أو واجبا أو ممتنعا ، وكذلك إذا قلت : كل واحد من الزنج أسود ، فإنه يجب أن يكون المجموع سودا ؛ لأن اقتران الموجود بالموجود لا يخرجه عن كونه موجودا ، واقتران المعدوم بالمعدوم لا يخرجه عن العدم [73] ، واقتران الممكن لذاته والممتنع لذاته بنظيره لا يخرجه عن كونه ممكنا لذاته وممتنعا لذاته . 
بخلاف ما لا يكون ممتنعا لذاته [74] إلا إذا انفرد وهو بالاقتران يصير  [ ص: 431 ] ممكنا ، كالعلم مع الحياة ، فإنه وحده ممتنع ومع الحياة ممكن . وكذلك أحد الضدين هو وحده ممكن ومع الآخر ممتنع اجتماعهما ، فالمتلازمان يمتنع انفراد أحدهما ، والمتضادان يمتنع اجتماعهما . 
وبهذا يتبين الفرق بين دوام الآثار الحادثة الفانية واتصالها ، وبين وجود علل ومعلولات ممكنة لا نهاية لها   . فإن من الناس من سوى بين القسمين في الامتناع ، كما يقوله كثير من أهل الكلام ، ومن الناس من توهم أن التأثير واحد في الإمكان والامتناع ، ثم لم يتبين له امتناع علل ومعلولات لا تتناهى ، وظن أن هذا موضع [75] مشكل لا يقوم على امتناعه حجة ، وإن لم يكن قولا لأحد ، كما ذكر ذلك الآمدي  في " رموز الكنوز " [76]  . والأبهري  [77]  [ ومن اتبعهما ] [78]  . 
والفرق بين النوعين حاصل ، فإن الحادث المعين إذا ضم إلى الحادث المعين ، حصل من الدوام والامتداد وبقاء النوع ما لم يكن حاصلا للأفراد ، فإذا كان المجموع طويلا ومديدا ودائما وكثيرا وعظيما ، لم يلزم أن يكون كل فرد طويلا ومديدا ودائما وكثيرا وعظيما . وأما العلل والمعلولات المتسلسلة فكل منهما ممكن ، وبانضمامه إلى الآخر لا يخرج عن الإمكان ، وكل منهما معدوم ، وبانضمامه إلى الآخر لا يخرج  [ ص: 432 ] عن العدم . فاجتماع المعدومات الممكنة ( * لا يجعلها موجودة ، بل ما فيها من الافتقار إلى الفاعل حاصل عند اجتماعها * ) [79] ، [80] أعظم من حصوله عند افتراقها [81] ، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع . 
				
						
						
