وعمدة من يقول ، إنما هي دليل التطبيق والموازنة بامتناع ما لا نهاية له من الحوادث [1] والمسامتة المقتضي تفاوت الجملتين ، ثم يقولون : [2] والتفاوت فيما لا يتناهى ( * محال ، مثال ذلك أن يقدروا الحوادث من [ زمن ] [3] الهجرة إلى ما لا يتناهى * ) [4] في المستقبل أو الماضي ، والحوادث من زمن الطوفان إلى ما لا يتناهى [ أيضا ] [5] ثم يوازنون الجملتين ، فيقولون : إن تساوتا [6] لزم أن يكون الزائد كالناقص ، وهذا ممتنع ، فإن إحداهما زائدة على الأخرى بما بين الطوفان والهجرة ، وإن تفاضلتا لزم أن يكون فيما لا يتناهى تفاضل ، وهو ممتنع .
والذين نازعوهم من أهل الحديث والكلام والفلسفة منعوا هذه المقدمة ، وقالوا : لا نسلم أن حصول مثل هذا التفاضل [ في ذلك ] [ ص: 433 ] ممتنع [7] ، بل نحن نعلم أنه من الطوفان إلى ما لا نهاية له في المستقبل أعظم من الهجرة إلى ما لا نهاية له في المستقبل ، وكذلك [ من الهجرة إلى ما لا بداية له [8] في الماضي أعظم من الطوفان إلى ما لا بداية له في الماضي ، وإن كان كل منهما لا بداية له [9] ، فإن ] [10] ما لا نهاية له من هذا الطرف وهذا الطرف ، ليس أمرا محصورا محدودا موجودا حتى يقال هما متماثلان [11] في المقدار ، فكيف يكون أحدهما أكثر ؟ بل كونه لا يتناهى معناه أنه يوجد شيئا بعد شيء دائما ، فليس هو مجتمعا محصورا .
والاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار ، إلا إذا كان كل ما يقال عليه إنه لا يتناهى له قدر محدود [12] ، وهذا باطل . فإن ، فكما أن اشتراك الواحد والعشرة والمائة والألف في التضعيف ما لا يتناهى ليس له حد محدود ولا مقدار معين ، بل هو بمنزلة العدد المضعف [13] الذي لا يتناهى لا يقتضي تساوي مقاديرها ، فكذلك هذا .
وأيضا : فإن هذين هما متناهيان من أحد الطرفين وهو الطرف المستقبل ، وغير متناهيين من الطرف الآخر وهو الماضي .
[ ص: 434 ] وحينئذ فقول [14] القائل : يلزم [15] التفاضل فيما لا يتناهى غلط ، فإنه إنما حصل في المستقبل وهو الذي يلينا وهو متناه ، ثم هما لا يتناهيان من الطرف الذي لا يلينا وهو الأزل [16] وهما متفاضلان [17] من الطرف الذي يلينا وهو طرف الأبد .
فلا يصح أن يقال : وقع التفاوت فيما لا يتناهى ، إذ هذا [18] يشعر بأن التفاوت حصل في الجانب الذي لا آخر له ، وليس الأمر [19] كذلك ، بل إنما حصل التفاضل [20] من الجانب [ المنتهى ] [21] الذي له آخر فإنه لم ينقض [22] .
ثم للناس في هذا جوابان [23] ، أحدهما : قول من يقول : ما مضى من الحوادث فقد عدم ، وما لم يحدث لم يكن ، فالتطبيق في مثل هذا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج ، كتضعيف الأعداد : فإن تضعيف الواحد أقل من تضعيف العشرة ، وتضعيف العشرة أقل من تضعيف المائة ، وكل ذلك لا نهاية له ، لكن ليس هو أمرا موجودا في الخارج .
[ ص: 435 ] ومن قال هذا فإنه يقول : إنما يمتنع [24] اجتماع ما لا يتناهى إذا كان مجتمعا في الوجود ، سواء كانت أجزاؤه [25] ( 3 متصلة كالأجسام ، أو كانت 3 ) [26] منفصلة كنفوس الآدميين [27] ، ويقول : ، ومنهم من يقول : المتناهي هو المجتمع المتعلق بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب وضعي كالأجسام ، أو طبيعي كل ما اجتمع في الوجود فإنه يكون متناهيا [28] كالعلل وأما ما لا يتعلق بعضه ببعض كالنفوس ، فلا يجب هذا فيها ، فهذان قولان .
وأما القائلون بامتناع ما لا يتناهى وإن عدم بعد وجوده ، فمنهم من قال به في الماضي والمستقبل ، كقول جهم [29] وأبي الهذيل ، ومنهم من فرق بين الماضي والمستقبل ، وهو قول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم . قالوا : لأنك إذا [30] قلت : لا أعطيك درهما إلا أعطيك [31] بعده درهما ، كان هذا ممكنا . ولو قلت : لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما ، كان هذا ممتنعا ، وعلى هذا اعتمد [32] أبو المعالي في " إرشاده " [33] وأمثاله [ ص: 436 ] من النظار .
وهذا التمثيل والموازنة ليست صحيحة ، بل الموازنة الصحيحة أن تقول : ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما ، فتجعل ماضيا قبل ماض ، كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل .
وأما قول القائل : لا أعطيك حتى أعطيك ، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل مثله [34] في المستقبل ويكون قبله ، فقد [35] نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل ، وهذا ممتنع ، لم ينف [36] الماضي حتى يكون قبله ماض فإن هذا ممكن ، والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي ، والمستقبل الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له ، فإن وجود ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع .
فهذه . الأقوال الأربعة للناس فيما لا يتناهى