الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما حجة الاستكمال [1] فقالوا : الممتنع أن يكون الرب تعالى مفتقرا [ ص: 421 ] إلى غيره ، أو أن يكون ناقصا في الأزل  عن كمال يمكن وجوده في الأزل كالحياة والعلم . وإذا كان هو القادر الفاعل لكل شيء ، لم يكن محتاجا إلى غيره بوجه من الوجوه ، بل العلل المفعولة هي مقدورة ومرادة له . والله تعالى يلهم عباده الدعاء ويجيبهم ، ويلهمهم التوبة ويفرح بتوبتهم إذا تابوا ، ويلهمهم العمل ويثيبهم إذا عملوا ، ولا يقال : إن المخلوق أثر في الخالق [2] أو [3] جعله فاعلا للإجابة [4] والإثابة والفرح [ بتوبتهم ] [5] ، فإنه سبحانه هو الخالق لذلك كله ، له الملك وله الحمد لا شريك له في شيء من ذلك ، ولا يفتقر فيه إلى غيره . والحوادث التي لا يمكن وجودها إلا متعاقبة ، لا يكون عدمها في الأزل نقصا .

                  قالوا [6] : وأما قولهم هذا يستلزم قيام الحوادث به [7] .

                  فيقال : أولا : هذا قول من هم من أكبر شيوخ المعتزلة والشيعة [8] - كهشام بن الحكم وأبي الحسين البصري ومن تبعهما - وهو لازم لسائرهم ، والشيعة المتأخرون أتباع المعتزلة البصريين [9] في هذا الباب ، هم والمعتزلة البصريون يقولون : إنه صار مدركا بعد أن لم يكن ، ( * لأن [ ص: 422 ] الإدراك عندهم كالسمع والبصر إنما يتعلق بالموجود ، وهم يقولون : صار مريدا بعد أن لم يكن * ) [10] . وأما البغداديون فإنهم وإن أنكروا الإدراك والإرادة فهم يقولون [11] : صار فاعلا بعد أن لم يكن . قالوا : وهذا قول بتجدد أحكام له وأحوال .

                  ولهذا قيل : إن هذه المسألة تلزم سائر الطوائف حتى الفلاسفة ، وقد قال بها من أساطينهم الأولين وفضلائهم المتأخرين غير واحد ، ويقال [12] : إن [ الأساطين ] [13] الذين كانوا قبل أرسطو أو كثيرا منهم [14] كانوا يقولون بها ، وقال بها أبو البركات صاحب " المعتبر " وغيره ، وهو قول طوائف من أهل الكلام من المرجئة والشيعة [15] والكرامية وغيرهم كأبي معاذ التومني [16] والهشامين .

                  وأما جمهور أهل السنة والحديث فإنهم يقولون بها أو بمعناها ، وإن كان منهم من لا يختار إلا [17] أن يطلق الألفاظ الشرعية ، ومنهم من يعبر [ ص: 423 ] عن المعنى الشرعي [18] بالعبارات الدالة عليه ، مثل حرب الكرماني [19] ، ونقله عن الأئمة ، ومثل عثمان بن سعيد الدارمي [20] ، ونقله عن أهل السنة ، ومثل البخاري صاحب الصحيح ، [ وأبي بكر ] بن خزيمة [21] الملقب إمام الأئمة ، ومثل أبي عبد الله بن حامد [22] ، وأبي إسماعيل الأنصاري

                  [23] الملقب بشيخ الإسلام ، ومن لا يحصي عدده إلا الله .

                  والمعتزلة كانوا ينكرون أن يقوم بذات الله [24] صفة أو فعل ، وعبروا عن ذلك بأنه لا تقوم به الأعراض والحوادث ، فوافقهم [ أبو محمد عبد الله بن سعيد ] بن كلاب [25] على [ نفي ] [26] ما يتعلق بمشيئته وقدرته ، وخالفهم في [ ص: 424 ] نفي الصفات ولم يسمها أعراضا . ووافقه على ذلك الحارث المحاسبي [27] ، ويقال إنه رجع عن ذلك ، وبسبب مذهب ابن كلاب هجره الإمام أحمد بن حنبل ، وقيل : إنه تاب منه .

                  وصار النزاع في هذا [ الأصل ] الأصل : ساقطة من ( ن ) فقط . بين طوائف الفقهاء ، فما من طائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي [ وأحمد ] إلا [ وفيهم ] من يقول [28] بقول ابن كلاب في هذا الأصل ، كأبي الحسن التميمي والقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى [ وأبي المعالي ] الجويني [29] وابن عقيل وابن الزاغوني ، وفيهم من يقول بقول جمهور أهل الحديث كالخلال [30] وصاحبه أبي بكر عبد العزيز [31] وأبي عبد الله بن حامد وأبي [ ص: 425 ] عبد الله بن منده [32] وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي نصر السجزي [33] وأبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة وأتباعه [34] .

                  وجماع [ القول في ] ذلك ن ، م : وجماع ذلك . أن الباري تعالى هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته  كالأفعال الاختيارية على هذين القولين ؟ .

                  قال المثبتون لذلك وللتعليل : نحن نقول لمن أنكر ذلك من المعتزلة والشيعة ونحوهم : أنتم تقولون : [ إن الرب ] [35] كان معطلا في الأزل لا يتكلم ولا يفعل شيئا ، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب حادث أصلا ، فلزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح ، وبهذا استطالت عليكم الفلاسفة وخالفتهم أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة في ذلك ، وظننتم أنكم أقمتم الدليل على حدوث العالم بهذا ، حيث ظننتم أن ما لا يخلو عن نوع الحوادث يكون حادثا لامتناع حوادث لا نهاية لها .

                  وهذا الأصل ليس معكم به كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة والتابعين ، بل الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة [ والقرابة ] وأتباعهم [36] [ ص: 426 ] بخلاف ذلك ، والنص والعقل دل على أن كل ما سوى الله [ تعالى مخلوق ] حادث [37] كائن بعد أن لم يكن ، ولكن لا يلزم [38] من حدوث كل فرد فرد مع كون الحوادث متعاقبة [ حدوث النوع ] [39] ، فلا يلزم من ذلك أنه لم يزل الفاعل المتكلم معطلا عن الفعل [40] والكلام ، ثم حدث ذلك بلا سبب [41] ، كما لم يلزم [ مثل ] [42] ذلك في المستقبل ، فإن كل فرد فرد من المستقبلات المنقضية [43] فان ، وليس النوع فانيا . كما قال تعالى : أكلها دائم وظلها [ سورة الرعد : 35 ] ، وقال : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ سورة ص : 54 ] . فالدائم الذي لا ينفد - أي لا ينقضي - هو [44] النوع ، وإلا فكل فرد من أفراده نافد منقض ليس بدائم .

                  وذلك أن الحكم الذي توصف به الأفراد إذا كان لمعنى موجود في الجملة [ وصفت به الجملة ، مثل وصف كل فرد بوجود أو إمكان أو بعدم ، فإنه يستلزم وصف الجملة ] [45] بالوجود والإمكان والعدم ؛ لأن طبيعة الجميع هي [46] طبيعة كل واحد واحد ، وليس المجموع إلا الآحاد الممكنة أو الموجودة أو المعدومة .

                  [ ص: 427 ] وأما إذا كان ما وصف به الأفراد لا يكون صفة للجملة ، لم يلزم أن يكون حكم الجملة حكم الأفراد ، كما في أجزاء البيت والإنسان [ والشجرة ] [47] ، فإنه ليس كل منها بيتا ولا إنسانا [ ولا شجرة ] [48] ، وأجزاء الطويل والعريض والدائم والممتد لا يلزم أن يكون كل منها طويلا وعريضا ودائما وممتدا [49] .

                  وكذلك إذا وصف كل واحد واحد من المتعاقبات بفناء أو حدوث ، لم يلزم أن يكون النوع منقطعا أو حادثا [50] بعد أن لم يكن ؛ لأن حدوثه معناه أنه وجد بعد أن لم يكن ، كما أن فناءه معناه أنه عدم بعد وجوده . وكونه عدم بعد وجوده ، أو وجد بعد عدمه أمر [51] يرجع إلى وجوده وعدمه ، لا إلى نفس الطبيعة الثابتة للمجموع ، كما في الأفراد الموجودة [52] أو المعدومة أو الممكنة ، فليس إذا كان هذا المعين [53] لا يدوم ، يلزم أن يكون نوعه [54] لا يدوم ؛ لأن الدوام تعاقب الأفراد ، وهذا أمر يختص به المجموع ، لا يوصف به الواحد ، وإذا حصل للمجموع بالاجتماع حكم [ ص: 428 ] يخالف به حكم الأفراد ، لم يجب مساواة المجموع للأفراد في أحكامه .

                  وبالجملة ، فما يوصف به الأفراد قد توصف به الجملة وقد لا توصف به ، فلا يلزم من حدوث الفرد حدوث النوع إلا إذا ثبت أن هذه الجملة موصوفة بصفة هذه الأفراد .

                  وضابط ذلك أنه إن كان بانضمام هذا الفرد إلى هذا الفرد يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد [55] ، لم يكن حكم المجموع حكم الأفراد ، وإن لم يتغير ذلك الحكم الذي لذلك الفرد ، كان حكم المجموع حكم أفراده [56] .

                  مثال الأول : أنا إذا ضممنا هذا الجزء إلى هذا الجزء ، صار المجموع [57] أكثر وأطول وأعظم من كل فرد ، فلا يكون في مثل هذا حكم [58] المجموع حكم الأفراد . فإذا قيل : إن [59] هذا اليوم طويل ، لم يلزم أن يكون جزؤه طويلا . وكذلك إذا قيل : هذا الشخص أو الجسم [60] طويل أو ممتد ، أو قيل : إن هذه الصلاة طويلة ، أو قيل : [ إن ] [61] هذا النعيم دائم ، لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائما .

                  قال الله تعالى : أكلها دائم وظلها [ سورة الرعد : 35 ] ، وليس كل جزء [ ص: 429 ] من أجزاء [62] الأكل دائما . وكذلك في الحديث [63] الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أحب العمل إلى الله أدومه " [64] وقول عائشة [ رضي الله عنها ] [65] : وكان عمله ديمة [66] . فإذا كان عمل المرء دائما ، لم يلزم أن يكون كل جزء منه دائما .

                  [ ص: 430 ] وكذلك إذا قيل : هذا المجموع عشر أوقية أو نش [67] أو إستار [68] ، لم يلزم أن يكون كل جزء [69] من أجزائه عشر أوقية ولا نشا ولا إستارا [70] ؛ لأن المجموع حصل بانضمام الأجزاء بعضها إلى بعض ، والاجتماع ليس موجودا [71] للأفراد .

                  وهذا بخلاف ما إذا قيل [72] : كل جزء من الأجزاء معدوم أو موجود أو ممكن أو واجب أو ممتنع ، فإنه يجب في المجموع أن يكون معدوما أو موجودا أو ممكنا أو واجبا أو ممتنعا ، وكذلك إذا قلت : كل واحد من الزنج أسود ، فإنه يجب أن يكون معدوما أو موجودا أو ممكنا أو واجبا أو ممتنعا ، وكذلك إذا قلت : كل واحد من الزنج أسود ، فإنه يجب أن يكون المجموع سودا ؛ لأن اقتران الموجود بالموجود لا يخرجه عن كونه موجودا ، واقتران المعدوم بالمعدوم لا يخرجه عن العدم [73] ، واقتران الممكن لذاته والممتنع لذاته بنظيره لا يخرجه عن كونه ممكنا لذاته وممتنعا لذاته .

                  بخلاف ما لا يكون ممتنعا لذاته [74] إلا إذا انفرد وهو بالاقتران يصير [ ص: 431 ] ممكنا ، كالعلم مع الحياة ، فإنه وحده ممتنع ومع الحياة ممكن . وكذلك أحد الضدين هو وحده ممكن ومع الآخر ممتنع اجتماعهما ، فالمتلازمان يمتنع انفراد أحدهما ، والمتضادان يمتنع اجتماعهما .

                  وبهذا يتبين الفرق بين دوام الآثار الحادثة الفانية واتصالها ، وبين وجود علل ومعلولات ممكنة لا نهاية لها   . فإن من الناس من سوى بين القسمين في الامتناع ، كما يقوله كثير من أهل الكلام ، ومن الناس من توهم أن التأثير واحد في الإمكان والامتناع ، ثم لم يتبين له امتناع علل ومعلولات لا تتناهى ، وظن أن هذا موضع [75] مشكل لا يقوم على امتناعه حجة ، وإن لم يكن قولا لأحد ، كما ذكر ذلك الآمدي في " رموز الكنوز " [76] . والأبهري [77] [ ومن اتبعهما ] [78] .

                  والفرق بين النوعين حاصل ، فإن الحادث المعين إذا ضم إلى الحادث المعين ، حصل من الدوام والامتداد وبقاء النوع ما لم يكن حاصلا للأفراد ، فإذا كان المجموع طويلا ومديدا ودائما وكثيرا وعظيما ، لم يلزم أن يكون كل فرد طويلا ومديدا ودائما وكثيرا وعظيما . وأما العلل والمعلولات المتسلسلة فكل منهما ممكن ، وبانضمامه إلى الآخر لا يخرج عن الإمكان ، وكل منهما معدوم ، وبانضمامه إلى الآخر لا يخرج [ ص: 432 ] عن العدم . فاجتماع المعدومات الممكنة ( * لا يجعلها موجودة ، بل ما فيها من الافتقار إلى الفاعل حاصل عند اجتماعها * ) [79] ، [80] أعظم من حصوله عند افتراقها [81] ، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية