الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وعمدة من يقول بامتناع ما لا نهاية له من الحوادث  ، إنما هي دليل التطبيق والموازنة [1] والمسامتة المقتضي تفاوت الجملتين ، ثم يقولون : [2] والتفاوت فيما لا يتناهى ( * محال ، مثال ذلك أن يقدروا الحوادث من [ زمن ] [3] الهجرة إلى ما لا يتناهى * ) [4] في المستقبل أو الماضي ، والحوادث من زمن الطوفان إلى ما لا يتناهى [ أيضا ] [5] ثم يوازنون الجملتين ، فيقولون : إن تساوتا [6] لزم أن يكون الزائد كالناقص ، وهذا ممتنع ، فإن إحداهما زائدة على الأخرى بما بين الطوفان والهجرة ، وإن تفاضلتا لزم أن يكون فيما لا يتناهى تفاضل ، وهو ممتنع .

                  والذين نازعوهم من أهل الحديث والكلام والفلسفة منعوا هذه المقدمة ، وقالوا : لا نسلم أن حصول مثل هذا التفاضل [ في ذلك ] [ ص: 433 ] ممتنع [7] ، بل نحن نعلم أنه من الطوفان إلى ما لا نهاية له في المستقبل أعظم من الهجرة إلى ما لا نهاية له في المستقبل ، وكذلك [ من الهجرة إلى ما لا بداية له [8] في الماضي أعظم من الطوفان إلى ما لا بداية له في الماضي ، وإن كان كل منهما لا بداية له [9] ، فإن ] [10] ما لا نهاية له من هذا الطرف وهذا الطرف ، ليس أمرا محصورا محدودا موجودا حتى يقال هما متماثلان [11] في المقدار ، فكيف يكون أحدهما أكثر ؟ بل كونه لا يتناهى معناه أنه يوجد شيئا بعد شيء دائما ، فليس هو مجتمعا محصورا .

                  والاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار ، إلا إذا كان كل ما يقال عليه إنه لا يتناهى له قدر محدود [12] ، وهذا باطل . فإن ما لا يتناهى ليس له حد محدود ولا مقدار معين ، بل هو بمنزلة العدد المضعف  ، فكما أن اشتراك الواحد والعشرة والمائة والألف في التضعيف [13] الذي لا يتناهى لا يقتضي تساوي مقاديرها ، فكذلك هذا .

                  وأيضا : فإن هذين هما متناهيان من أحد الطرفين وهو الطرف المستقبل ، وغير متناهيين من الطرف الآخر وهو الماضي .

                  [ ص: 434 ] وحينئذ فقول [14] القائل : يلزم [15] التفاضل فيما لا يتناهى غلط ، فإنه إنما حصل في المستقبل وهو الذي يلينا وهو متناه ، ثم هما لا يتناهيان من الطرف الذي لا يلينا وهو الأزل [16] وهما متفاضلان [17] من الطرف الذي يلينا وهو طرف الأبد .

                  فلا يصح أن يقال : وقع التفاوت فيما لا يتناهى ، إذ هذا [18] يشعر بأن التفاوت حصل في الجانب الذي لا آخر له ، وليس الأمر [19] كذلك ، بل إنما حصل التفاضل [20] من الجانب [ المنتهى ] [21] الذي له آخر فإنه لم ينقض [22] .

                  ثم للناس في هذا جوابان [23] ، أحدهما : قول من يقول : ما مضى من الحوادث فقد عدم ، وما لم يحدث لم يكن ، فالتطبيق في مثل هذا أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج ، كتضعيف الأعداد : فإن تضعيف الواحد أقل من تضعيف العشرة ، وتضعيف العشرة أقل من تضعيف المائة ، وكل ذلك لا نهاية له ، لكن ليس هو أمرا موجودا في الخارج .

                  [ ص: 435 ] ومن قال هذا فإنه يقول : إنما يمتنع [24] اجتماع ما لا يتناهى إذا كان مجتمعا في الوجود ، سواء كانت أجزاؤه [25] ( 3 متصلة كالأجسام ، أو كانت 3 ) [26] منفصلة كنفوس الآدميين [27] ، ويقول : كل ما اجتمع في الوجود فإنه يكون متناهيا  ، ومنهم من يقول : المتناهي هو المجتمع المتعلق بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب وضعي كالأجسام ، أو طبيعي [28] كالعلل وأما ما لا يتعلق بعضه ببعض كالنفوس ، فلا يجب هذا فيها ، فهذان قولان .

                  وأما القائلون بامتناع ما لا يتناهى وإن عدم بعد وجوده ، فمنهم من قال به في الماضي والمستقبل ، كقول جهم [29] وأبي الهذيل ، ومنهم من فرق بين الماضي والمستقبل ، وهو قول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم . قالوا : لأنك إذا [30] قلت : لا أعطيك درهما إلا أعطيك [31] بعده درهما ، كان هذا ممكنا . ولو قلت : لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما ، كان هذا ممتنعا ، وعلى هذا اعتمد [32] أبو المعالي في " إرشاده " [33] وأمثاله [ ص: 436 ] من النظار .

                  وهذا التمثيل والموازنة ليست صحيحة ، بل الموازنة الصحيحة أن تقول : ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما ، فتجعل ماضيا قبل ماض ، كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل .

                  وأما قول القائل : لا أعطيك حتى أعطيك ، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل مثله [34] في المستقبل ويكون قبله ، فقد [35] نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل ، وهذا ممتنع ، لم ينف [36] الماضي حتى يكون قبله ماض فإن هذا ممكن ، والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي ، والمستقبل الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له ، فإن وجود ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع .

                  فهذه الأقوال الأربعة للناس فيما لا يتناهى   .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية