الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن أصحابه أسروا رجلا من بني عقيل ومعه ناقة يقال: لها العضباء، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في وثاق، فقال: يا محمد علام تأخذني وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: "نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف"، وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي -عليه السلام-، فلما مضى النبي -عليه السلام- ناداه يا محمد، فقال: "ما شأنك؟" قال: إني مسلم، فقال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح"، فقال: يا محمد، إني جائع فأطعمني، إني ظمآن فاسقني، قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذه حاجتك"، أو قال: "هذه حاجته" قال: ففدي الرجل بعد بالرجلين .

أخبرناه ابن داسة، نا أبو داود، نا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا: نا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين.

[ ص: 380 ]

قوله: "نأخذك أخذت بجريرة حلفائك"  فيه قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه الشافعي وذكره في بعض كتبه، فقال: وذلك لأن المأخوذ مشرك مباح الدم والمال، ولما كان حبسه حلالا بغير جناية، جاز أن يحبس بجناية غيره لاستحقاقه ذلك بنفسه.

والقول الآخر: ما ذهب إليه بعض أهل العلم، حدثني الحسن بن يحيى، عن ابن المنذر قال: قال بعض أهل العلم: قوله: "أخذت بجريرة حلفائك" دلالة أنه كان بينه وبينهم موادعة أو صلح، فنقضت ثقيف الموادعة والصلح، وترك بنو عقيل الإنكار عليهم ومنعهم من صنيعهم ذلك، فصاروا كأنهم نقضوا العهد.

قال أبو سليمان: وفيه وجه ثالث: وهو أن يكون معناه: أخذت لتدفع بك جريرة حلفائك من ثقيف، وأضمره في الكلام كقوله:


من شاء دلى النفس في هوة ضنك ولكن من له بالمضيق



يريد من له بالخروج من المضيق، ويدل على صحة هذا التأويل قوله: ففدي بعد بالرجلين. والمعنى أخذت ليستنقذ بك من أسرته ثقيف.

وقوله: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح"  معناه: لو أسلمت قبل الإسار أفلحت الفلاح التام بأن تكون مسلما حرا، وذلك أنه إذا أسر كافرا كان عبدا وإن أسلم، فأما فداؤه إياه بالرجلين ورده إلى دار الكفر بعد إظهاره كلمة الإسلام فإن هذا المعنى خاص للنبي -صلى الله عليه وسلم-، [ ص: 381 ] وذلك أنه قد علم أنه غير صادق في قوله، وأنه إنما أظهر كلمة الإسلام رغبة أو رهبة، ألا تراه يقول حين استطعمه واستسقاه: هذه حاجتك، فأما اليوم فقد انقطع الوحي، ولا سبيل إلى علم ما في الضمائر؛ فمن أظهر الإسلام قبل منه، ووكلت سريرته إلى ربه.

فأما حديثه الآخر "أنه أسر ثمامة بن أثال فأبى أن يسلم قصرا، فأعتقه فأسلم" .

حدثناه محمد بن المكي، أنا الصائغ، نا سعيد بن منصور، نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، ففيه دليل على أن للإمام أن يمن على الأسير من غير فداء ولا مال.  

وقوله: "قصرا" معناه حبسا عليه وإجبارا يقال: قصرت نفسي على الشيء إذا حبستها عليه. ومن هذا قوله تعالى: حور مقصورات في الخيام أي: محبوسات على أزواجهن مخدرات.

ومنه حديث أسماء بنت عبيد الأشهلية "أنها أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال النبي -صلى الله [ ص: 382 ] عليه وسلم-: "نعم إذا أحسنتن تبعل أزواجكن، وطلبتن مرضاتهم". ويقال: امرأة قصورة وقصيرة أي: مخدرة، أنشدني أبو عمر، أنشدنا ثعلب، عن ابن الأعرابي:


وأنت التي حببت كل قصيرة     إلي ولم تعلم بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد     قصار الخطا شر النساء البهاتر



البهاتر: القصار، يقال للقصير: بهتر وبحتر.

وقال آخر:


أحب من النسوان كل قصيرة     لها نسب في الصالحين قصير



أراد بالقصيرة المخدرة، وقصر نسبها أن تعرف بأول آبائها كقول رؤبة: أتيت النسابة البكري، فقال: من أنت؟ قلت: ابن العجاج، قال: قصرت وعرفت، فقال رؤبة:


قد نوه العجاج باسمي فادعني     باسم إذا الأنساب طالت يكفني



وقد يحتمل أن يكون أراد قسر الغلبة والقهر، أبدل السين صادا.

وأخبرني أبو محمد الكراني، نا عبد الله بن شبيب، نا زكريا بن يحيى [ ص: 383 ] المنقري، نا الأصمعي قال: اختلف رجل من مضر ورجل من ربيعة، فقال المضري: السقر، وقال الربعي: الصقر، فأقبل رجل من قضاعة فأخبراه، فقال: لا أقول كما قلتما، إنما هو الزقر، وقد قرئ الصراط والسراط، وروي عن بعضهم الزراط، وهذه الحروف متقاربة في مخارجها من اللسان؛ فلذلك جرى فيها الإبدال.

التالي السابق


الخدمات العلمية