الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه جاء إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان، ومعه أبو بكر وعمر، وقد خرج أبو الهيثم يستعذب الماء، فدخلوا فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم يحمل الماء: قربة يزعبها، ثم رقي عذقا له، فجاء بقنو فيه زهوه ورطبه، فأكلوا منه وشربوا من ماء الحسي، ثم [ ص: 482 ] قال: يا أبا الهيثم ألا أرى لك هانئا، فإذا جاءنا السبي أخدمناك خادما".

أخبرناه محمد بن المكي، ثنا الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، نا فليح بن سليمان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار. لم يذكر ابن المكي في روايته يزعبها. رواه غيره.

قوله: "يزعبها"  قال الأصمعي: يقال: مر يزعب بحمله إذا استقام به. وأنشد قول جميل بن معمر:


له من خوافي النسر حم نظائر ونصل كنصل الزاعبي فتيق



يريد بالزاعبي ما اعتدل من الرماح واستقام. وقال غيره: الزاعبي منسوب إلى زاعب: رجل من الخزرج كان يعمل الأسنة. والفتيق: المحدد.

وقوله: "رقي عذقا" يريد نخلة.  والعذق بالفتح: النخل. والعذق بالكسر: الثمر، والقنو: العثكال بما عليه من الثمر. وفي رواية أخرى: "أنه أخذ مخرفا فأتى عذقا له". والمخرف: وعاء شبه الدوخلة يجمع فيه جني الثمر، فأما المخرف فهو جنى النخل، قاله أبو عبيد. وعلى هذا تأول قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عائد المريض على مخارف الجنة".  وقال أبو عبيد: إنما سمي مخرفا؛ لأنه يخترف منه أي: يجتنى. وأنكر ابن قتيبة هذا التفسير، وزعم أنه غلط بين من أبي عبيد؛ لأنه ذكر أن المخرف جنى النخل، [ ص: 483 ] وجنى النخل: رطبه وثمره، وذلك مخروف النخل. قال: وإنما المخرف النخل بعينه. والدليل على ذلك قول أبي طلحة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن لي مخرفا، وإني أريد أن أجعله صدقة. أراد أن لي نخلا. وأراد أن عائد المريض في بساتين الجنة؛ لأنه استحقها بالعيادة، فهو صائر إليها.

قال أبو سليمان: قول أبي عبيد صحيح. ووجهه بين واضح في مذهب اللغة. والمخرف: خرفة الثمر، وهو ما يخترف منه كالمحرم في الحرمة. يقال: هتك فلان محرما أي: حرمة. قال حميد بن ثور:


فأردت أن أغشى إليها محرما     ولمثلها يغشى إليها المحرم



وقد جاء هذا في حديث مرفوع.

أخبرناه ابن الأعرابي، نا محمد بن عبد الملك الدقيقي، نا يزيد بن هارون، أنا عاصم الأحول، عن عبد الله بن زيد، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مولى رسول الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة، قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها".  

والحسي: حفيرة قريبة القعر. ويقال: إن الحسي لا يكون إلا في أرض أسفلها حجارة وفوقها رمل، فإذا مطرت نشفته الرمال، فإذا انتهى إلى الحجارة أمسكته، فإذا جاء وقت الحر نبش عنه الرمل واستقي منه الماء العذب.

[ ص: 484 ]

قوله: "لا أرى لك هانئا" فإن المشهور من هذا الحديث أنه قال: "لا أرى لك ماهنا". والماهن: الخادم. والمهنة: الخدمة. فأما الهانئ فمن قولك: هنأته أي: أعطيته. ومنه المثل: "سميت هانئا لتهنأ" أي: إنما سدت لتحمل كل الناس، وتفضل عليهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية