الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه كتب لأهل نجران حين صالحهم، إن عليهم ألفي حلة في كل صفر ألف حلة، وفي كل رجب ألف حلة، وما قضوا من ركاب أو خيل أو دروع أخذ منهم بحساب ذلك، وعلى نجران مثوى رسلي عشرين ليلة فما دونها، ولنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله على ديارهم وأموالهم وملتهم وثلتهم وبيعهم ورهابنتهم وأساقفتهم وشاهدهم وغائبهم، وعلى أن لا يغيروا أسقفا من [ ص: 498 ] سقيفاه ولا واقفا من وقيفاه، ولا راهبا من رهابنته، وعلى أن لا يحشروا ولا يعشروا.

أخبرناه محمد بن المكي، نا إسحاق بن إبراهيم، نا علي بن حجر، نا عيسى بن يونس، نا عبيد الله بن أبي حميد الهذلي، عن أبي المليح الهذلي.

الحلة: ثوبان إزار ورداء، ولا تكون حلة إلا وهي جديدة تحل عن طيها فتلبس،  والركاب: الإبل التي تركب اسم جماعة ولا يفرد من لفظه اسم الواحد.

وقوله: مثوى رسلي:  أي: نزلهم وما يثويهم مدة مقامهم. والثواء: طول المكث بالمكان، والمثوى: المنزل. ويقال لصاحب المنزل أبو مثواه، ولربة البيت أم مثواه. والثوي: الضيف. والثلة: الجماعة من الناس، والثلة: القطيع من الغنم. قال ابن السكيت: يقال للضأن الكثيرة ثلة، ولا يقال للمعز ثلة وإنما يقال لها حيلة، إلا أن يخالطها الضأن فيكثر فيقال لها ثلة، والثلة أيضا: الصوف والشعر، والرهابنة: جمع على غير قياس، وإنما يجمع الراهب على الرهبان، كما قيل راكب وركبان، وقد يكون الرهبان اسما للواحد، أنشدني أبو عمر: أنشدنا أبو العباس ثعلب:


لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ويصل



والأساقفة: جمع الأسقف. ويقال: إنما سمي أسقفا لخشوعه. والأسقف: الطويل الذي فيه انحناء وميل.  قال بشر: [ ص: 499 ]


يعدو بها سبط المناسم أسقف



والسقيفى إن كان أراد جمع الأسقف فهو جمع على غير قياس، وإنما جاء على وزنه مصادر من الكلام نحو الخليفى والرميا والحجيزى، فإن سلك بها مسلك المصادر كان معناه لا يمنع أسقف من التسقف ولا راهب من الترهب. والواقف خادم البيعة، ويقال: سمي واقفا لأنه وقف نفسه على الخدمة وعكفها على العبادة. ويقال له: الواهف أيضا، روي في حديث آخر "لا يغير واهف عن وهفيته" وفي رواية أخرى: "عن وهافته" ولا قسيس عن قسيسيته، والقسيس كالعالم منهم، والراهب: المتعبد المتفرد، والأبيل: العظيم من النصارى، وأنشدني ابن الفارسي، عن أبي العباس ثعلب:


وما سبح الرهبان في كل بلدة     أبيل الأبيليين عيسى بن مريما



ومثله الأيبلي، قال الشاعر:


لو عرضت لأيبلي قس     أشعت في هيكله مندس
حن إليها كحنين الطس



فأما الأريسي فهو الأكار أو الأجير فيما يفسر.

وأخبرني بعض أصحابنا، عن إبراهيم الحربي قال: الأرارسة: الزراعون، واحدهم إريس. وكتب رسول الله إلى هرقل: "فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين. يريد الضعفاء والأتباع منهم. ويقال: إن [ ص: 500 ] الإريسيين الذين كانوا يحرثون أرضهم كانوا مجوسا، والروم أهل كتاب، يريد: إن عليك مثل وزر المجوس إن لم تؤمن ولم تصدق.

قال أبو العباس ثعلب: قال ابن الأعرابي: الأريس الأكار ويجمع على الأريسين، وقد أرس يأرس أرسا إذا صار أريسا، ويقال له أيضا الإريس، ويجمع على إريسين وأرارسة.

وحدثناه حمزة بن الحارث، نا عبيد بن شريك البزار، نا يحيى بن بكير، حدثني الليث بن سعد، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس، أخبره أن أبا سفيان بن حرب، أخبره أن رسول الله كتب إلى هرقل: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية.

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده اللجب وارتفعت الأصوات.
اللجب: صوت واختلاط في مثل صخب أو شغب.  يقال: عسكر لجب، وسحاب لجب بالرعد والريح.

[ ص: 501 ]

وقوله: لا يحشروا ولا يعشروا أي: لا يؤخذ العشر من أموالهم، ولا يكلفوا الخروج في البعوث،  وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستعين ببعض أهل الكفر على بعض، واستعان بيهود من بني قينقاع، وشهد معه صفوان حنينا وصفوان مشرك. وهذا كحديثه الآخر في النساء: "إنهن لا يحشرن، ولا يعشرن"، وقد ذكره ابن قتيبة في كتابه. وذكر عن بسام بن عبد الرحمن أنه قال: معناه أنهن لا يخرجن في المغازي، ثم قال ابن قتيبة: ولا وجه لهذا، إنما معناه أنهن لا يحشرن إلى المصدق ليأخذ منهن الصدقات، ولكن تؤخذ الصدقات منهن بمواضعهن.

قال أبو سليمان: ووجه الحديث ما ذهب إليه بسام؛ لأن السنة في المسلمين كلهم رجالهم ونسائهم أن لا يحشروا إلى المصدق، وإنما تؤخذ صدقاتهم عند مياههم وأفنيتهم، فلم يكن لتخصيصهن بهذا الحكم دون غيرهن معنى.

ومما يدل على أن الحشر يراد به الجهاد حديثه الآخر.

حدثناه محمد بن المكي، نا محمد بن علي بن زيد الصائغ، نا سعيد بن منصور، نا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال، حدثه عن يزيد بن خصيفة، عن عبد الله بن نافع، عن غزية بن الحارث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا هجرة بعد الفتح، إنما هو الحشر والنية والجهاد".  

يريد بالحشر الخروج في النفير، ويزيده بيانا حديث وفد ثقيف أنهم [ ص: 502 ] اشترطوا على رسول الله أن لا يعشروا ولا يحشروا ولا يجبوا، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لكم أن لا تعشروا ولا تحشروا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع" . يريد لا تؤخذ منكم الصدقة، ولا تكلفون الجهاد.

وبيان هذا في حديث جابر، أخبرناه ابن داسة، نا أبو داود، نا الحسن بن الصباح، نا إسماعيل يعني ابن عبد الكريم، حدثني إبراهيم بن عقيل بن منبه، عن أبيه، عن وهب قال: سألت جابرا عن شأن ثقيف، فقال: اشترطت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك يقول: "سيصدقون ويجاهدون إذا أسلموا". ويشبه أن يكون -والله أعلم-، إنما أرخص لهم في ذلك؛ لأن الجهاد غير محصور الوقت، وإنما يتعين فرضه عند حضور العدو وكذلك الصدقة، إنما يكون وجوبها بكمال الحول، وقد علم -صلى الله عليه وسلم-أنهم يفعلون ذلك إذا حان وقته ولزم فرضه، فأما الصلاة فلم يرخص لهم في تركها؛ لأن وقتها محصور، وهي تتكرر في كل يوم وليلة، ولا سبيل إلى تركها بوجه، بل اللازم فعلها لا محالة في حالتي الرفاهة والضرورة على حسب الطاقة والإمكان.

التالي السابق


الخدمات العلمية