الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث معاوية أن عمرو بن مسعود دخل عليه وقد أسن وطال عمره فقال له معاوية : كيف أنت وكيف حالك ؟ فقال : ما تسأل يا أمير المؤمنين عمن ذبلت بشرته وقطعت ثمرته ، فكثر منه ما يحب أن يقل ، وصعب منه ما يحب أن يذل ، وسحلت مريرته بالنقض ، وأجم النساء وكن الشفاء ، وقل انحياشه ، وكثر ارتعاشه ، فنومه سبات ، وليله هبات ، وسمعه خفات ، وفهمه تارات   .

أخبرناه ابن الأعرابي وابن الزيبقي ، ودخل حديث أحدهما في الآخر .

قال ابن الأعرابي : نا ابن أبي الدنيا ، ثنا محمد بن عباد بن موسى ، نا محمد بن عبد الله الخزاعي قال : حدثني رجل من بني سليم .

وقال ابن الزيبقي : حدثني أبي ، عن جدي ، عن هشام بن محمد ، عن أبيه ، عن رجل من قريش .

قوله : ذبلت بشرته : أي قل ماؤها وذهبت نضارتها .

[ ص: 523 ] والبشرة : ما يباشره البصر من ظاهر بدن الإنسان ، والأدمة : باطن البدن ، وفي ذبول البشرة وجه آخر ، وهو أن يكون كناية عن الفرج ، يريد أنه قد ضعف واسترخى .

قال سفيان بن عيينة في قوله عز وجل : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم أراد بالجلود الفروج .  

وقوله : قطعت ثمرته يريد ذهاب الزرع وانقطاع النسل ، وهو ثمرة الإنسان ، وهو يؤيد التأويل الآخر في ذبول البشرة .

وقوله : كثر منه ما يحب أن يقل ، يريد آفات الكبر كالسهو والغلط ونحوهما وكالبوال والذنين وما أشبههما من العلل .

وأما صعوبة ما يحب أن يذل فإنه يريد بذلك ما يعرض للمشايخ من جسو المفاصل فيقل معه اللين واللدونة التي بها يكون مطاوعة القبض والبسط من الأعضاء .

وقوله : سحلت مريرته بالنقض ، فإن المريرة الحبل المفتول والسحل : أن يفتل الغزل طاقة واحدة ، يقال : خيط سحيل ، فإذا فتل طاقتين فهو مبرم ، قال زهير :


يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم



[ ص: 524 ] وقال ابن هرمة :


أرى الناس في أمر سحيل فلا تكن     له صاحبا حتى ترى الأمر مبرما

وإنما جعل الحبل وانتقاضه مثلا لانحلال بدنه وانتقاض قواه .

وقوله : أجم النساء أي ملهن وعافهن كما يعاف الطعام .

ويقال : أجمت اللحم إذا أكثرت منه حتى تعافه .

وقوله : قل انحياشه أي حركته وتصرفه في الأمور ، إلا أن الحركة الضرورية بالارتعاش قد كثرت منه وغلبت عليه .

والسبات : نوم المريض والشيخ المسن ، وهو الغشية الخفيفة .

يقال : سبت الرجل فهو مسبوت ، ويقال : إنه مأخوذ من السبت وهو القطع ، وذلك لأنه سريع الانقطاع .

ويقال : إنما سمي آخر أيام الجمعة سبتا لانقطاع الأيام عنده ، وذلك أن أولها يوم الأحد ، والسبت أيضا السير السريع ، قال الشاعر :


ومطوية الأقراب أما نهارها     فسبت وأما ليلها فذميل

والخفات ضعف الحس ، يريد أنه لا يدرك الصوت إلا كهيئة السرار ، والخفوت خفض الصوت ، ومنه المخافتة في الكلام ، قال الله تعالى : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . وإنما قيل للميت : خافت لانقطاع [ ص: 525 ] صوته . والخفات من خفت بمنزلة الصمات من صمت والسكات من سكت .

وقوله : وليله هبات فإن الهبات من الهبت وهو اللين والاسترخاء ويقال : في فلان هبتة أي ضعف عقل ، وقد هبت السحاب بالمطر إذا أرخت عزاليها ، قال الشاعر :


سقيا مجلجلة ينهل وابلها     من باكر مستهل الودق مهبوت

كأنه يريد أن نومه بالليل إنما هو بقدر أن تسترخي أعضاؤه من غير أن يستغرق نوما ، ولو قيل : وليله هبات من هب النائم من نومه كان جيدا إلا أن الرواية متبعة . [ويروى مهتوت ، بتاءين أي مصبوب] .

وشبيه بهذا حديث أبي العريان ، أخبرناه ابن الأعرابي ، نا عبد الكريم بن الهيثم ، نا إبراهيم بن بشار ، نا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : دخلوا على أبي العريان يعودونه فقالوا : كيف تجدك ؟ قال : أجدني يبيض مني ما كنت أحب أن يسود ، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض ، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد ، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين . ألا أخبرك بآيات الكبر :


تقارب الخطو وسوء في البصر     وقلة الطعم إذا الزاد حضر



[ ص: 526 ]

وقلة النوم إذا الليل اعتكر     وكثرة النسيان فيما يدكر
وتركك الحسناء في قبل الطهر     والناس يبلون كما يبلى الشجر

ألا أخبركم بجيد العنب ؟ هو ما روى عموده واخضر عوده وتفرق عنقوده .

ألا أخبركم بجيد الرطب ؟ هو ما كثر لحاؤه ورق سحاؤه وصغر نواه .

التالي السابق


الخدمات العلمية