الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
458 - وقال "أبو عبيد" في حديث "النبي" - صلى الله عليه وسلم - :

"العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار،  وفي الركاز الخمس".

قال: حدثنيه "إسماعيل بن جعفر" عن "محمد بن عمرو" [ ص: 255 ] عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" عن "النبي" - صلى الله عليه وسلم - :

قوله "العجماء" يعني البهيمة وإنما سميت عجماء، لأنها لا تتكلم [ ص: 256 ] .

قال: وسمعت "المبارك بن سعيد بن مسروق" يحدث عن "عمرو بن قيس" عن "الحسن" قال:

"من ذكر الله [ - تبارك وتعالى - ] في السوق كان له من الأجر بعدد كل فصيح فيها وأعجم".

فقال "المبارك" الفصيح: الإنسان، والأعجم: البهيمة.

قال "أبو عبيد": وكذلك كل من لا يقدر على الكلام، فهو أعجم ومستعجم.

ومن هذا حديث "عبد الله" "إذا كان أحدكم يصلي فاستعجمت عليه قراءته فلينم" [ ص: 257 ] .

يعني: إذا انقطعت، فلم يقدر على القراءة من النعاس.

ومنه قول "الحسن": "صلاة النهار عجماء".  

يقول: لا يسمع فيها قراءة.

وأما الجبار: فهو الهدر، وإنما جعل جرح العجماء هدرا إذا كانت منفلتة ليس لها قائد، ولا سائق، ولا راكب.

فإذا كان معها واحد من هؤلاء الثلاثة، فهو ضامن; لأن الجناية حينئذ ليست للعجماء، إنما هي جناية صاحبها الذي أوطأها الناس.

وقد روي ذلك عن "علي" و"عبد الله" و"شريح" وغيرهم وأما الحديث المرفوع: "الرجل جبار"   [ ص: 258 ] .

فإن معناه أن يكون الراكب يسير على دابته، فتنفح الدابة برجلها في سيرها فذلك هدر أيضا، وإن كان عليها راكب; لأن له أن يسير في الطريق وأنه لا يبصر ما خلفه.

فإن كان واقفا عليها في طريق لا يملكه، فما أصابت بيدها أو برجلها أو غير ذلك فهو ضامن على كل حال.

وكذلك إن أصابت بيدها وهي تسير، فهو ضامن أيضا.

واليد والرجل في الوقوف سواء، هو ضامن له.

وأما قوله: "البئر جبار" فإن فيها غير قول:

يقال: إنها البئر يعني يكتري عليها صاحبها رجلا يحفرها في ملكه فتنهار على الحافر، فليس على صاحبها ضمان.

ويقال: هي البئر تكون في ملك الرجل. فيسقط فيها إنسان أو دابة، فلا ضمان عليه; لأنها في ملكه فهذا قول يقال.

ولا أحسب هذا وجه الحديث: لأنه لو أراد الملك لما خص البئر خاصة دون الحائط والبيت والدابة وكل شيء يكون في ملك الرجل، فلا ضمان عليه فيه [ ص: 259 ] .

ولكنها عندي: البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها حافر، ولا مالك تكون بالبوادي، فيقع فيها الإنسان أو الدابة، فذلك، هدر بمنزلة الرجل يوجد قتيلا. بفلاة من الأرض لا يعلم له قاتل فليس فيه قسامة ولا دية.

وأما قوله: "المعدن جبار"  فإنها هذه المعادن التي يستخرج منها الذهب والفضة، فيجيء قوم، يحتفرونها بشيء مسمى لهم، فربما انهار المعدن عليهم، فقتلهم، فيقول: دماؤهم هدر; لأنهم إنما عملوا بأجرة.

وهذا أصل لكل عامل عمل عملا بكراء، فعطب فيه أنه هدر لا ضمان على من استعمله. إلا أنهم إذا كانوا جماعة ضمن بعضهم لبعض على قدر حصصهم من الدية. وقال "أبو عبيد": ومن هذا لو أن [ ص: 260 ] رجلين هدما حائطا [بأجر] فسقط عليهما فقتل أحدهما  كان على عاقلة الذي لم يمت نصف الدية لورثة الميت، ويسقط عنه النصف; لأن الميت أعان على نفسه.

وأما قوله : "في الركاز الخمس"  فإن "أهل العراق" و"أهل الحجاز" اختلفوا في الركاز.

فقال "أهل العراق": الركاز: المعادن كلها، فما استخرج منها من شيء، فلمستخرجها أربعة أخماس مما أصاب، ولبيت المال الخمس.

قالوا: وكذلك المال العادي يوجد مدفونا هو مثل المعدن على قياسه سواء.

وقالوا: إنما أصل الركاز المعدن، والمال العادي الذي قد ملكه الناس مشبه بالمعدن.

وقال "أهل الحجاز": إنما الركاز: المال المدفون خاصة مما كنزه "بنو آدم" قبل الإسلام، فأما المعادن، فليست بركاز، وإنما فيها مثل ما في أموال المسلمين من الزكاة إذا بلغ ما أصاب مائتي درهم كان فيها خمسة دراهم [لبيت المال] وما زاد فبحساب ذلك.

وكذلك الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا كان فيه نصف مثقال، وما زاد فبحساب ذلك [ ص: 261 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية