الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
620 - وقال أبو عبيد في حديث عمر - رضي الله عنه - أنه أتي في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية ، فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم ، ولا يسترقوا " .

قال : حدثناه ابن علية ومعاذ ، عن ابن عون ، قال : أنبأني غاضرة العنبري أنهم أتوا عمر في ذلك .

قال أبو عبيد : وأخبرني الأصمعي أنه سمع ابن عون يذكر هذا الحديث ، قال : فقلت لابن عون : إن المساعاة لا تكون في الحرائر ، إنما تكون في الإماء .

قال : فجعل ابن عون ينظر إلي .

قال أبو عبيد : ومعنى المساعاة : الزنا ، وإنما خص الإماء بالمساعاة دون الحرائر ؛ لأنهن كن يسعين على مواليهن ، فيكسبهن لهم بضرائب كانت عليهن ، وفي ذلك نزلت هذه الآية : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا إلى آخر الآية [ ص: 235 ] .

قال [ أبو عبيد ] : أخبرنيه يحيى بن سعيد ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله ، قال :

كانت أمة لعبد الله بن أبي [بن سلول ] - وكان يكرهها على الزنا - فنزلت الآية : (ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن [لهن] غفور رحيم)

[قال أبو عبيد ] : هكذا قرأها .

قال : وحدثني إسحاق الأزرق ، عن عوف ، عن الحسن في هذه الآية ، قال : لهن والله . لهن والله .

وقال الأعشى :


يهب الجلة الجراجر كالبستا ن تحنو لدردق أطفال

    والبغايا يركضن أكسية الإضـ
ـريج والشرعبي ذا الأذيال

يريد بالبغايا : الإماء ؛ لأنهن كن يفجرن .

وقوله : يهب الجلة ، ويهب البغايا : يبين لك أن هذا لا يقع إلا على الإماء .

قال أبو عبيد : وكان الحكم في الجاهلية أن الرجل إذا وطئ أمة رجل فجاءت بولد ، فادعاه في الجاهلية ، فإن حكمهم كان أن يكون ولده ، لاحق النسب به ، ولهذا المعنى اختصم عبد بن زمعة وسعد بن مالك في ابن أمة زمعة [ ص: 236 ] إلى النبي - صلى الله عليه [وسلم ] - فقال سعد : ابن أخي ، عهد إلي فيه أخي ، وقال عبد بن زمعة : أخي ، ولد على فراش أبي ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالولد للفراش ،  وأبطل ما كان من حكم الجاهلية أن يكون لاحق النسب .

وقضى عمر أن الدعوى - إذا كانت في الإسلام ، وليس سيد الجارية بالمدعي - للولد - كما ادعى عبد بن زمعة أخاه - أن يكون حرا لاحق النسب ، وتكون قيمته على أبيه لمولى الجارية .

ومنه حديث له آخر ، قال : حدثناه أبو معاوية ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، أن "عمر " كان يلحق أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام .

قال أبو عبيد : فإذا كان الوطء والدعوى جميعا في الإسلام ، فدعوته باطلة ، وهو مملوك ؛ لأنه عاهر .

وقال النبي - صلى الله عليه [وسلم ] : "الولد للفراش وللعاهر الحجر " .  

[قال أبو عبيد ] : ولعمر [رحمه الله ] أيضا حكم آخر في الرق ، فيما [ ص: 237 ] كانت العرب تسابي في الجاهلية ، فيأتي الإسلام ، والمسبي في يده كالمملوك له ، فحكم "عمر " - في مثل هذا - أن يرد حرا إلى نسبه ، وتكون قيمته عليه ، يؤديها إلى الذي سباه ؛ لأنه أسلم وهو في يده .

قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن الشعبي ، قال : لما قام "عمر " قال : ليس على عربي ملك ، ولسنا بنازعين من يد رجل شيئا أسلم عليه ، ولكنا نقومهم الملة خمسا من الإبل .

قال : فسألت "محمدا " عن تأويله ، ففسره نحوا مما قلت لك ، يعني أنه ليس على هؤلاء الذين سبوا ملك ؛ لأنهم عرب ، ثم قال : ولسنا بنازعين من يد رجل شيئا أسلم عليه .

يقول : هذا الذي في يديه [من ] السبي لا ننزعه من يده بلا عوض ؛ لأنه أسلم عليه ، ولا نتركه مملوكا وهو من العرب ، ولكنه يقوم . قيمته خمسا من الإبل للذي سباه ، ويرجع إلى نسبه عربيا كما كان .

ولعمر أيضا في السباء حكم ثالث ، وذلك أن الرجل من الملوك كان ربما غلب على البلاد ، حتى يستعبد أهلها ، فيجوز حكمه فيهم ، كما يجوز في مماليكه ، وعلى هذا عامة ملوك العجم اليوم - الذين في أطراف الأرض - يهب منهم من شاء ، ويصطفي لنفسه ما شاء ؛ ولهذا ادعى الأشعث بن قيس رقاب "أهل [ ص: 238 ] نجران" ، وكان استعبدهم في الجاهلية ، فلما أسلموا أبوا عليه .

قال : حدثناه ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، أن الأشعث خاصم "أهل نجران " إلى "عمر " في رقابهم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا إنما كنا عبيد مملكة ، ولم نكن عبيد قن .

قال : فتغيظ عليه "عمر " ، وقال : أردت أن تغفلني .

قال : وكذلك حدثناه معاذ ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن "عمر " إلا أنه قال : قال له "عمر " : أردت أن تعنتني .

قال الكسائي : القن : أن يكون ملك وأبواه ، والمملكة : أن يغلب عليهم تملكا ، وليس سباء .

وفي هذا الحديث أصل لكل من ادعى رقبة رجل ، وأنكر المدعى عليه أن القول قوله ، ألا تراه جعل القول قول "أهل نجران" ؟

ولعمر أيضا في الولد حكم آخر .

قال : حدثنيه ابن مهدي ، عن سفيان ، عن أيوب بن موسى ، عن سلمان بن يسار ، عن "عمر " : أنه قضى في ولد المغرور غرة .

يعني الرجل يزوج رجلا مملوكة على أنها حرة ، فقضى أن يغرم الزوج لمولى الأمة غرة ، ويكون ولده حرا ، ويرجع الزوج على من غره بما غرم [ ص: 239 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية