فصل  
إذا ثبت هذا ؛ فالدخول في عمل على نية الالتزام له ، إذا ثبت هذا ، فالدخول في عمل على نية الالتزام له إن كان في المعتاد ، بحيث إذا داوم عليه ؛ أورث مللا ، ينبغي أن يعتقد أن هذا      [ ص: 387 ] الالتزام مكروه ابتداء ، إذ هو مؤد إلى أمور جميعها منهي عنه :  
أحدها : أن  الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير   ، وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته ، وذلك يضاهي ردها على مهديها ، وهو غير لائق بالمملوك مع سيده ، فكيف يليق بالعبد مع ربه ؟ !  
والثاني : خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع .  
وقال صلى الله عليه وسلم إخبارا عن  داود   عليه السلام : إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما  ، ولا يفر إذا لاقى ؛ تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء لعدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن تكبده بسبب ضعفه .  
وقيل   لعبد الله بن مسعود  رضي الله عنه : إنك لتقل الصوم ، فقال : " إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي منه     " .  
ولذلك كره  مالك  إحياء الليل كله ، وقال : " لعله يصبح مغلوبا ، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة " ، ثم قال : " لا بأس به ؛ ما لم يضر بصلاة الصبح " .  
وقد جاء في :  صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين   ، ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل ؛ لأنه قوة على الوقوف والدعاء ،  ولابن وهب  في ذلك حكاية .  
وقد جاء في الحديث :  إن لأهلك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا  ، فإذا انقطع إلى عبادة لا تلزمه في الأصل ؛ فربما      [ ص: 388 ] أخل بشيء من هذه الحقوق .  
وعن  أبي جحيفة     ( رضي الله تعالى عنه ) ؛ قال :  آخر ما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين  سلمان   وأبي الدرداء ،  فزار  سلمان   أبا الدرداء  ، فرأى   أم الدرداء  متبذلة ، فقال : ما شأنك متبذلة ؟ قالت : إن أخاك   أبا الدرداء  ليست له حاجة في الدنيا ، قال : فلما جاء   أبو الدرداء  ؛ قرب إليه طعاما ، فقال : كل ؛ فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، قال : فأكل ، فلما كان الليل ؛ ذهب   أبو الدرداء  ليقوم ، فقال له  سلمان     : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال له : نم ، فنام ، فلما كان عند الصبح ؛ قال له  سلمان     : قم الآن ، فقاما فصليا ، فقال (  سلمان     ) : إن لنفسك عليك حقا ، ولربك عليك حقا ، ولضيفك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط لكل ذي حق حقه . فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال : صدق  سلمان     .  
قال  الترمذي     : صحيح .  
وهذا الحديث قد جمع التنبيه على  حق الأهل بالوطء والاستمتاع وما يرجع إليه   ،  والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها   ، والولد بالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة ، والنفس بترك إدخال المشقات عليها ، وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم وبوظائف أخر فرائض ونوافل آكد مما هو فيه ، والواجب أن يعطي لكل ذي حق حقه .  
وإذا التزم الإنسان أمرا من الأمور المندوبة أو أمرين أو ثلاثة ؛ فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها ، أو عن كماله على وجهه ، فيكون ملوما .  
 [ ص: 389 ]    ( والثالث ) : خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم ؛ لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه ، فتدخل المشقة ، ( بحيث ) لا يقرب من وقت العمل ؛ إلا والنفس تشمئز منه ، وتود لو لم تعمل ، أو تتمنى لو لم تلتزم .  
وإلى هذا المعنى يشير حديث  عائشة  رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  إن هذا الدين متين ، فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله ؛ فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى     .  
 [ ص: 390 ] فشبه الموغل بالعنف بالمنبت ، وهو المنقطع في بعض الطريق ؛ [ لأنه عنف في أوله ] تعنيفا على الظهر ـ وهو المركوب ـ حتى وقف فلم يقدر على السير ، ولو رفق بدابته ؛ لوصل إلى رأس المسافة .  
فكذلك الإنسان ؛ عمره مسافة ، والغاية الموت ، ودابته نفسه ، فكما هو المطلوب بالرفق على الدابة حتى يصل بها ؛ فكذلك هو مطلوب بالرفق بنفسه حتى يسهل عليها قطع مسافة العمر بحمل التكليف ، فنهى في الحديث عن التسبب في تبغيض العبادة للنفس ، وما نهى الشرع عنه لا يكون حسنا .  
وخرج   الطبراني  من حديث   ابن عباس  رضي الله عنهما ؛ قال :  لما نزلت :  ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا   وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا   ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم  عليا  ومعاذا  ، فقال : " انطلقا فبشرا ويسرا ولا تعسرا ؛ فإني أنزلت علي : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا     .  
وخرج  مسلم  عن  سعيد بن أبي بردة  عن أبيه عن جده :  أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذا إلى  اليمن   ، فقال : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا     .  
 [ ص: 391 ] وعنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره ؛ قال : "  بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا      .  
وهذا نهي عن التعسير الذي التزام الحرج في التعبد نوع منه .  
وفي   الطبري  عن   جابر بن عبد الله  ؛ قال :  مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يصلي على صخرة  بمكة   ، فأتى ناحية  مكة   ، فمكث مليا ، ثم انصرف ، فوجد الرجل يصلي على حاله ، فقال : أيها الناس ! عليكم بالقصد والقسط ـ ثلاثاـ ؛ فإن الله لن يمل حتى تملوا     .  
وعن   بريدة الأسلمي     : أن النبي صلى الله عليه وسلم  رأى رجلا يصلي ، فقال : " من      [ ص: 392 ] هذا ؟ ، فقلت : هذا فلان ، فذكرت من عبادته وصلاته ، فقال : " إن خير دينكم أيسره     .  
وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة ، وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل ، وكراهية العمل مظنة للترك الذي هو مكروه لمن ألزم نفسه لأجل نقض العهد ، ( وهو الوجه الرابع ) .  
وقد مر في الوجه الثالث ما يدل عليه ؛ فإن قوله عليه السلام :  فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى     " ، ومع قوله : "  ولا تبغضوا إلى أنفسكم العبادة  ؛ يدل على أن بغض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع ، ولذلك مثل عليه السلام بالمنبت ، وهو المنقطع عن استيفاء المسافة ، وهو الذي دل عليه قول الله تعالى :  فما رعوها حق رعايتها   ، على التفسير المذكور .  
( والخامس ) : الخوف من الدخول تحت الغلو في الدين ؛ فإن الغلو هو المبالغة في الأمر ، ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف ، وقد دل عليه مما تقدم أشياء :  
حيث قال عليه السلام :  يا أيها الناس ! عليكم بالقصد     . . . .      [ ص: 393 ] الحديث .  
وقال الله عز وجل :  ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم      .  
وعن   ابن عباس  رضي الله عنهما ؛ قال :  قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة  العقبة      : " اجمع لي حصيات من حصى الخذف " ، فلما وضعتهن في يده ؛ قال : " بأمثال هؤلاء ؛  إياكم والغلو في الدين   ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين     .  
فأشار إلى أن الآية في النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط ، وأكثر هذه الأحاديث المقيدة آنفا خرجها   الطبري     .  
وخرج أيضا عن  يحيى بن جعدة  ؛ قال : " كان يقال : اعمل وأنت مشفق ، ودع العمل وأنت تحبه : عمل دائم وإن قل خير من عمل كثير منقطع     " .  
وأتى  معاذا  رجل ، فقال : أوصني . قال : " أمطيعي أنت ؟ " ، قال : نعم ، قال : " صل ونم ، وصم وأفطر ، واكتسب ولا تأت الله إلا وأنت مسلم ، وإياك ودعوة المظلوم     .  
 [ ص: 394 ] وعن   إسحاق بن سويد     : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال  لعبد بن مطرف     : "  يا عبد الله ! العلم أفضل من العمل ، والحسنة بين السيئتين ،  وخير الأمور أوسطها ، وشر السير الحقحقة      .  
ومعنى قوله : إن  الحسنة بين السيئتين     : أن الحسنة هي القصد والعدل ، والسيئتين مجاوزة الحد والتقصير ، وهو الذي دل على معناه قول الله تعالى :  ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط   الآية ، وقوله :  والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا   الآية .  
ومعنى الحقحقة : أرفع السير ، وإتعاب الظهر ، وهو راجع إلى الغلو والإفراط .  
ونحوه عن  يزيد بن مرة الجعفي  ؛ قال : "  العلم خير من العمل ، والحسنة بين السيئتين     " .  
وعن   كعب الأحبار     : "  إن هذا الدين متين ؛ فلا تبغض إليك دين الله ، وأوغل برفق ؛ فإن المنبت لم يقطع بعدا ولم يسبق ظهرا ، واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت إلا يوما ، واحذر حذر المرء الذي يرى أنه      [ ص: 395 ] يموت غدا     .  
وخرج  ابن وهب  نحوه عن   عبد الله بن عمرو بن العاص     .  
وهذه إشارة إلى الأخذ بالعمل الذي يقتضي المداومة عليه من غير حرج .  
وعن  عمر بن إسحاق  ؛ قال : " أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم ، فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم     " .  
وقال  الحسن     : " دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو     " .  
والأدلة في هذا المعنى كثيرة ، جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين .  
والحرج كما ينطلق على الحرج الحالي ـ كالشروع في عبادة شاقة في نفسها ـ كذلك ينطلق على الحرج المآلي ، إذ كان الحرج لازما مع الدوام ؛ كقصة   عبد الله بن عمرو  رضي الله عنهما ، وغير ذلك ـ مما تقدم ـ ، مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول  أبي أمامة  رضي الله عنه في قوله تعالى :  فما رعوها حق رعايتها   ، وقوله صلى الله عليه وسلم :  أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه   وإن قل ، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته ، حتى قضى ركعتي ما بين الظهر بعد العصر .  
 [ ص: 396 ] هذا ؛ إن كان العامل لا ينوي الدوام فيه ، فكيف إذا عقد في نيته أن لا يتركه ؟ ! فهو أحرى بطلب الدوام .  
فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   لعبد الله بن عمرو     : "  يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل ، فترك قيام الليل  ، وهو حديث صحيح ، فنهاه عليه السلام أن يكون مثل فلان ، وهو ظاهر في كراهية الترك من ذلك الفلان وغيره .  
فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام مطلوب الترك لعلة أكثرية ، ففهم عند تقريره أنه إذا فقدت ؛ زال طلب الترك ، وإذا ارتفع طلب الترك ؛ رجع إلى أصل العمل ، وهو طلب الفعل .  
فالداخل فيه على التزام شرطه داخل في مكروه ابتداء من وجه ؛ لإمكان عدم الوفاء بالشرط ، وفي المندوب إليه ؛ حملا على ظاهر العزيمة على الوفاء ، فمن حيث الندب ؛ أمره الشارع بالوفاء ، ومن حيث الكراهية ؛ كره له أن يدخل فيه .  
وحين صارت الكراهة هي المقدمة ؛ كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر ، فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها ، فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله  أبو أمامة  رضي الله عنه .  
ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر في المآل ، أو مع قطع النظر عن المشقة ، أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط ؛ أشبه صاحبه من دخل      [ ص: 397 ] في نافلة قصدا للتعبد بها ، وذلك صحيح جار على مقتضى أدلة الندب .  
ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء ، كان نذرا أو التزاما بالقلب غير نذر ، ولو كان بدعة داخلة في حد البدعة ؛ لم يؤمر بالوفاء ، ولكان عمله باطلا .  
ولذلك جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  رأى رجلا قائما في الشمس ، فقال : " ما بال هذا ؟ " ، فقالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " مروه فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صيامه     .  
فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع بما ليس بمشروع ألبتة ، وأمره بالوفاء بما هو مشروع في الأصل ، فلولا [ أن ] للفرق بينهما معنى ؛ لم يكن للتفرقة بينهما معنى مفهوم .  
وأيضا ؛ فإذا كان الداخل مأمورا بالدوام ؛ لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة ، بل لا بد ؛ لأن المباح ـ فضلا عن المكروه والمحرم ـ لا يؤمر بالدوام عليه ، ولا نظير لذلك في الشريعة .  
وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم :  من نذر أن يطيع الله فليطعه     .  
ولأن الله مدح من أوفى بنذره في قوله سبحانه :  يوفون بالنذر   في معرض المدح وترتيب الجزاء الحسن .  
 [ ص: 398 ] وفي آية الحديد :  فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم   ، ولا يكون الأجر إلا على مطلوب شرعا .  
فتأملوا هذا المعنى ، فهو الذي يجري عليه عمل السلف الصالح رضي الله عنهم بمقتضى الأدلة ، وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي ، حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسير من تقدم ، والحمد لله .  
غير أنه يبقى بعدها إشكالان قويان ، وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه ، فنعقد في كل إشكال فصلا .  
				
						
						
