فصل  
( الإشكال الأول ) : إن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دل على خلافه :  
فقد  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تورمت قدماه ، فيقال له : أو ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ !     .  
ويظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائما     .  
وكان صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه     . . . . .  
ونحو ذلك من  اجتهاده في عبادة ربه . وفي رسول الله أسوة حسنة   ، ونحن مأمورون بالتأسي .  
 [ ص: 399 ] فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذه القضية ـ ولذلك كان ربه يطعمه ويسقيه ـ وكان يطيق من العمل ما لا تطيقه أمته ؛ فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين العارفين بتلك الأدلة التي استدللتم بها على الكراهية :  
حتى أن بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل .  
وصارت جبهة بعضهم كركبة البعير من كثرة السجود ؟  
وجاء  عن   عثمان بن عفان  رضي الله عنه : " أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله     " .  
وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء كذا كذا سنة ، وسرد الصيام كذا وكذا سنة ، وكانوا هم العارفين بالسنة ، لا يميلون عنها لحظة .  
وروي  عن   ابن عمر  وابن الزبير     : أنهما كانا يواصلان الصيام     .  
وأجاز  مالك  ـ وهو إمام في الاقتداء ـ  صيام الدهر   ؛ يعني : إذا أفطر أيام العيد .  
ومما يحكى  عن   أويس القرني  أنه كان يقوم ليله حتى يصبح ، ويقول : " بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا     . . . " ؛ يريد أنه يتنفل بالصلاة ، فتارة يطول فيها القيام ، وتارة الركوع ، وتارة السجود .  
وعن   الأسود بن يزيد     : أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر ، فكان  علقمة  يقول له : ويحك ! لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : " إن الأمر جد ، إن الأمر جد     " .  
وعن   أنس بن مالك     : أن امرأة  مسروق  قالت : " كان يصلي حتى      [ ص: 400 ] تورمت قدماه ، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه     .  
وعن   الشعبي ؛  قال : " غشي على  مسروق  في يوم صائف وهو صائم ، فقالت له ابنته : أفطر ، قال : ما أردت بي ؟ قالت : الرفق ، قال : يا بنية ! إنما طلبت الرفق لتعبي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة     " .  
وعن   الربيع بن خثيم     : أنه قال : " أتيت   أويسا القرني  ، فوجدته قد صلى الصبح وقعد ، فقلت : لا أشغله عن التسبيح ، فلما كان وقت الصلاة ؛ قام فصلى إلى الظهر ، فلما صلى الظهر ، صلى إلى العصر ، فلما صلى العصر ؛ قعد يذكر الله إلى المغرب ، فلما صلى المغرب ؛ صلى إلى العشاء ، فلما صلى العشاء ؛ صلى إلى الصبح ، فلما صلى الصبح ؛ جلس ، فأخذته عينه ، ثم انتبه ، فسمعته يقول : " اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة ، وبطن لا تشبع     " .  
والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين ، وهي تدل على  الأخذ بما هو شاق في الدوام ،   ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسنة ، بل عدوهم من السابقين ، جعلنا الله منهم .  
وأيضا ؛ فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة ، بل هو عن الغلو فيها غلوا يدخل المشقة على العامل ، فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة ؛ فلا ينتهض النهي في حقه ؛ كما إذا قال الشارع : لا يقضي القاضي وهو غضبان ، وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج ؛ اطرد النهي مع كل مشوش ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج ، وهذا صحيح جار على الأصول .  
 [ ص: 401 ] وحال من فقدت في حقه العلة حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة ؛ فإن الخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة سبيل حامل ، فالخائف إن وجد المشقة ؛ فالخوف مما هو أشق يحمله على الصبر ما هو أهون وإن كان العمل شاقا ، والراجي يعمل وإن وجد المشقة ؛ لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود ؛ شوقا إلى المحبوب ، فيسهل عليه الصعب ، ويقرب عليه البعيد ، فيوهن القوى ، ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ، ويعصر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته .  
وإذا كان كذلك ؛ صح الجمع بين الأدلة ، وجاز الدخول في العمل التزاما مع الإيغال فيه : إما مطلقا ، وإما مع ظن انتفاء العلة ، وإن دخلت المشقة فيما بعد ؛ إذا صح مع العامل الدوام على العمل ، ويكون ذلك جاريا على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح .  
والجواب : أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح ، وما نقل عن الأولين يحتمل ثلاثة أوجه :  
أحدها : أن يحمل [ على ] أنهم إنما عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام ، فلم يلزموا أنفسهم بما لعله يدخل عليهم المشقة حتى يتركوا بسببه ما هو أولى ، أو يتركوا العمل ، أو يبغضوه لثقله على أنفسهم ، بل التزموا ما كان على النفوس سهلا في حقهم ، فإنما طلبوا اليسر لا العسر ، وهو الذي كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحال من تقدم النقل عنه من المتقدمين ؛ بناء على أنهم إنما عملوا بمحض السنة والطريقة العامة لجميع المكلفين ، وهذه طريقة   الطبري  في الجواب .  
 [ ص: 402 ] وما تقدم في السؤال مما يظهر منه خلاف ذلك ؛ فقضايا أحوال يمكن حملها على وجه صحيح إذا ثبت أن العامل ممن يقتدى به .  
( والثاني ) : يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا ، لكن لا على جهة الالتزام ، لا بنذر ولا غيره .  
وقد يدخل الإنسان في أعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال ، فيغتنم نشاطه في حالة خاصة ؛ غير ناظر فيها فيما يأتي ، ويكون جاريا فيه على أصل رفع الحرج ، حتى إذا لم يستطعه ؛ تركه ، ولا حرج عليه ؛ لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة .  
ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن  عائشة  رضي الله عنها ؛ قالت :  كان رسول الله يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم ، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان     . . . ، الحديث .  
فتأملوا وجه اعتبار النشاط ، والفراغ من الحقوق المتعلقة ، أو القوة في الأعمال .  
وكذلك قول   عبد الله بن عمرو  في صيام يوم وإفطار يوم : " ليتني طوقت ذلك     " ؛ إنما يريد المداومة ؛ لأنه قد كان يوالي الصيام حتى يقولوا لا يفطر .  
ولا يعترض [ على ] هذا المأخذ بقوله عليه السلام :  أحب العمل إلى الله   ما دام عليه صاحبه وإن قل  ، وأنـ [ ـه ]  كان عمله دائما  ؛ لأنه      [ ص: 403 ] محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام .  
وأما ما نقل عنهم إدامة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل ، وصيام الدهر . . . ونحوه ؛ فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور ، وهو أن لا يلتزم ذلك ، وإنما يدخل في العمل حالا يغتنم نشاطه ، فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا وإذا لم يخل بما هو أولى ؛ عمل كذلك ، فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زمانا طويلا ، وفي كل حالة هو في فسحة الترك ، لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات ، فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر ، فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام .  
وهذا صحيح ، ولا سيما مع سائق الخوف أو حادي الرجاء أو حامل المحبة ، وهو معنى قوله عليه السلام :  وجعلت قرة عيني في الصلاة  ، فلذلك  قام عليه السلام حتى تورمت قدماه ،  وامتثل أمر ربه في قوله تعالى  قم الليل إلا قليلا   ، الآية .  
( والثالث ) : أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمرا منضبطا ، بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم ، أو في قوة عزائمهم ، أو في قوة يقينهم . . . . أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم وأنفاسهم ، فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين ؛ لأن أحدهما أقوى جسما ، أو أقوى عزيمة ، أو يقينا بالموعد ، والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها ، وتقوى مع      [ ص: 404 ] ضعفها .  
فنحن نقول : كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى  زيد ؛  فهو منهي عنه ، ولا يشق على  عمر ؛  فلا ينهى عنه .  
فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقا عليهم ، وإن كان ما هو أقل منه شاقا علينا ، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه ؛ إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم ، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله .  
وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع ، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو ( الأولى ) والأحرى بالجميع ، وهو الذي دلت عليه الأدلة ؛ دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم ؛ إلا على القليل النادر منهم .  
والشاهد لصحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم :  إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني  ؛ يريد عليه السلام : أنه لا يشق عليه الوصال ، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق .  
فعلى هذا ؛ من رزق أنموذجا مما أعطيه عليه السلام ، فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه ؛ فلا حرج .  
وأما رده عليه السلام على عبد الله بن عمرو ؛ فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام ، ولذلك وقع له ما كان متوقعا ، حتى قال : " ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .  
 [ ص: 405 ] ويكون عمل  ابن الزبير   وابن عمر  وغيرهما في الوصال جاريا على أنهم أعطوا حظا مما أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات ، والحمد لله .  
وإذا كان كذلك ؛ لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة لما سبق .  
				
						
						
