[ ص: 619 ] المثال الخامس :
إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار ، وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم ، ما يراه كافيا لهم في الحال ، إلى أن يظهر مال بيت المال ، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار أو غير ذلك ، كيلا يؤدي تخصيص الناس به ( إلى ) إيحاش القلوب ، وذلك يقع قليلا من كثير بحيث لا يحجف بأحد ويحصل الغرض المقصود . فللإمام - إذا كان عدلا - أن يوظف على الأغنياء
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا ، فإن القضية فيه أحرى ، ووجه المصلحة هنا ظاهر ، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام ، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار .
وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله ، فالذين يحذرون من الدواهي لو انقطع عنهم الشوكة ، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها ، فضلا عن اليسير منها .
فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم ، فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول . وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد .
والملاءمة الأخرى ، أن الأب في طفله ، أو الوصي في يتيمه ، أو الكافل فيمن يكفله ، مأمور برعاية الأصلح له ، وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات أو المؤن المحتاج إليها . وكل ما يراه سببا لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله ، ومصلحة الإسلام عامة لا [ ص: 620 ] تتقاصر عن مصلحة طفل ، ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره .
ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة ، وإذا دعاهم الإمام وجبت الإجابة ، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة ، زيادة إلى إنفاق المال . وليس ذلك إلا لحماية الدين ، ومصلحة المسلمين .
فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الإمام في الشوكة ضعفا وجب على الكافة إمدادهم ، كيف والجهاد في كل سنة واجب على الخلق ؟ ! وإنما يسقط باشتغال المرتزقة به ، فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك .
وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم ، فلا يؤمن ( من ) انفتاح باب الفتن بين المسلمين ، فالمسألة على حالها كما كانت ، وتوقع الفساد عتيد ، فلا بد من الحراس .
فهذه ملاءمة صحيحة ، إلا أنها في محل ضرورة ، فتقدر بقدرها ، فلا يصح هذا الحكم إلا مع وجودها . والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى ، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بحيث لا يغني كبير شيء ، فلا بد من جريان حكم التوظيف .
وهذه المسألة نص عليها في مواضع من كتابه ، وتلاه في تصحيحها الغزالي ابن العربي في " أحكام القرآن له " ، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام ، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع .