الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
باب ذكر الماء الفاصل بين الماء الحامل للنجاسة وبين غيره من المياه الراكدة ، وموضع الاختيار منه .

قال أبو عبيد: قد أكثرت العلماء الكلام في الماء قديما وحديثا. فقال ناس من أهل الأثر بالقول الأول في الرخصة والسعة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينجس الماء شيء"  وقال آخرون: بالتغليظ والكراهة ، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول والاغتسال من الجنابة في الماء الدائم. [ ص: 234 ]

فكلا الفريقين لم يوقت في مبلغ ذلك الماء وقتا، وأما أهل العراق من أصحاب الرأي فيذهبون فيه إلى التوقيت فجعلوا الحد المفرق بينهما اضطراب الماء وتحركه ، فقالوا: ما كان منه إذا حركت ناحيته فلم يبلغ به التحرك الناحية الأخرى وقصر عن ذلك فهو عندهم الذي لا ينجس قالوا: فإن بلغ به ذلك التحرك إلى أقصاه فهو الذي تنجسه الأقذار.

وحجتهم فيما يرى: أن الذي يلحق بعضه بعضا في التحريك ضعيف تمتزج به النجاسة ، وأنه إذا اتسع حتى تبعد أطرافه بعضها من بعض ، ولا يتلاحق فإن الأنجاس لا تمتزج به ، ولا تقوى عليه.

وأما أهل الحجاز فإن العامة كانوا يحكون عنهم التوسع فيه نحو ما روينا في الباب الأول ، أنه لا ينجسه شيء ، ورأيناهم ، أو من رأينا منهم ، [ ص: 235 ] ينكرون ذلك ، وقالوا فيه نحو قول أهل العراق ، غير أنه لا حد عندهم يوقتونه لهؤلاء ، على أن بعضهم قد حكى عن مالك أنه قال: في المصانع العظام أنها لا تنجس.

قال أبو عبيد: وإن الذي عندنا في الماء أنه لا يجوز فيه التحديد والتوقيت بالظن والرأي لأن الطهور من أصل الدين المفروض ، ولا يوجد إلا من كتاب أو سنة ، وإنا تدبرنا الآثار فوجدناها قد نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع ، منها: اثنان عامان ، وواحد خاص ، فالعامان: هما الباب الأول والثاني ، اللذان فيهما السعة والتغليظ ، والخاص: هو الباب الذي فيه الوقت. فمن أخذ بالأولين اللذين فيهما العموم خرجا به إلى ما يفحش ، وتنكره الأمة.

ألست تعلم أن من جعل الرخصة عامة ، فقال: الماء لا ينجسه شيء أبدا ، في الحالات كلها ، فإنه يلزمه أن يقول في رجل أتى بإنائه ليتوضأ منه [ ص: 236 ] فبال فيه بائل: إن له أن يتوضأ به ، لأنه عنده لا ينجسه شيء.

وكذلك من جعل التغليظ عاما في الحالات كلها ، فإنه يلزمه في البحار والبطائح وما أشبههما: أن البول والاغتسال من الجنابة فيها ينجسها ، فأي المسلمين لا ينكر هذين المذهبين ولا يستوحش منهما وأشد من هذين جميعا القول فيه بالاستحسان والرأي وهو ذكر الاضطراب والتحرك ، فكل هذه الوجوه الثلاثة ، لا أرى العمل بشيء منها ، ولكن الذي نختاره ونرى العمل به: الحديث الذي فيه التوقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو القلتان أو الثلاث ، ثم أفتى به مجاهد والحسن في القلتين ، وقد ذكرنا حديثهما ، وليس هذا بخلاف الأحاديث الأولى التي فيها الرخصة والتي فيها التغليظ ، ولكنه عندنا مفسر لها ، وقاض عليها ، لأن تلك مجملة ، وهذا ملخص ، وكذلك كل أمر معلوم ، فهو الحاكم على المجهول ، وإلى هذا انتهى قولنا في الماء تمسكا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 237 ] واقتصاصا لأثره، فإذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثا فهو الذي لا ينجسه شيء ، ولا يزال طاهرا ما لم يصر مغلوبا برائحة الأنجاس أو طعمها ، فإذا صار إلى ذلك كان قد زايله حينئذ اسم الماء الذي اشترط الله جل وعز في تنزيله حين قال: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا وقد سمعنا في الطعم والريح حديثا مرفوعا،.

التالي السابق


الخدمات العلمية