فصل : في مثل نوره . . ) . الآية تفسير قوله تعالى : (
وقوله تعالى : ( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . . ) الآية هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن ، كما قال وغيره ، وقد اختلف في تفسير الضمير في نوره ، فقيل : هو النبي صلى الله عليه وسلم أي : مثل نور أبي بن كعب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : تفسيره المؤمن ، أي : مثل نور المؤمن ، والصحيح أنه يعود على الله عز وجل والمعنى : مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده ، وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا مع ما تضمنه عود الضمير إلى المذكور ، وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة ، وهو أتم معنى ولفظا .
[ ص: 50 ] وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه ، ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله ، فيضاف إلى الفاعل والقابل ، ولهذا النور فاعل وقابل ، ومحل وحامل ، ومادة ، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل .
فالفاعل : هو الله تعالى مفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء ، والقابل : العبد المؤمن ، والمحل قلبه ، والحامل : همته وعزيمته وإرادته ، والمادة : قوله وعمله ، وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم .
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان : أحدهما : طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف ، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به وعلى هذا عامة أمثال القرآن الكريم .
فتأمل صفة مشكاة ، وهي كوة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها مصباح وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها ، ومادته من أصفى [ ص: 51 ] الأدهان وأتمها وقودا من زيت شجرة في وسط القراح ، لا شرقية ولا غربية ، بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه ، تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها ، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار ، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به .
والطريقة الثانية : طريقة التشبيه المفصل ، فقيل : المشكاة صدر المؤمن والزجاجة قلبه ، وشبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها ، وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته .
وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء ، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ، ويتصلب في ذات الله [ ص: 52 ] تعالى ويغلظ على أعداء الله تعالى ويقوم بالحق لله تعالى ، وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية ، كما قال بعض السلف : القلوب آنية الله في أرضه وأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها .
والمصباح هو نور الإيمان في قلبه والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ، ودين الحق وهي مادة المصباح التي يتقد منها ، والنور على النور : نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح ، ونور الوحي والكتاب ، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور ، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع " ما " فيه بالأثر ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه " أن " الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور ، عكس من تلاطمت في قلبه " أمواج " الشبه الباطلة ، والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات التي يسميها [ ص: 53 ] أهلها القواطع العقليات ، فهي في صدره كما قال الله تعالى : ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائف بني آدم كلهم أتم انتظام ، واشتملت عليه أكمل اشتمال .