الفصل الثاني : بين
اعلم أن الله جل اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده ، والعلم بذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وجميع تكليفاته ابتداء دون واسطة لو شاء ، كما حكي عن سنته في بعض الأنبياء ، وذكره بعض أهل التفسير في قوله تعالى : النبوة ، والرسالة وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ الشورى : 51 ] .
وجائز أن يوصل إليهم جميع ذلك بواسطة تبلغهم كلامه ، وتكون تلك الواسطة ، إما من غير البشر ، كالملائكة مع الأنبياء ، أو من جنسهم ، كالأنبياء مع الأمم ، ولا مانع لهذا من دليل العقل .
وإذا جاز هذا ولم يستحل ، وجاءت الرسل بما دل على صدقهم من معجزاته ، وجب تصديقهم في جميع ما أتوا به ، لأن المعجزة مع التحدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - قائم مقام قول الله : صدق عبدي فأطيعوه ، واتبعوه ، وشاهد على صدقه فيما يقوله ، وهذا كاف .
والتطويل فيه خارج عن الغرض ، فمن أراد تتبعه وجده مستوفى في مصنفات أئمتنا رحمهم الله .
في لغة من همز مأخوذة من النبأ ، وهو الخبر ، وقد لا تهمز على هذا التأويل تسهيلا . فالنبوة
والمعنى أن الله - تعالى - أطلعه على غيبه ، وأعلمه أنه نبيه ، فيكون نبي منبأ فعيل بمعنى مفعول ، أو يكون مخبرا عما بعثه الله - تعالى - به ، ومنبئا بما أطلعه الله عليه فعيل بمعنى فاعل ، ويكون عند من لم يهمزه من النبوة ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعناه أن له رتبة شريفة ، ومكانة نبيهة عند مولاه منيفة ، فالوصفان في حقه مؤتلفان .
وأما فهو المرسل ، ولم يأت فعول بمعنى مفعل في اللغة إلا نادرا ، وإرساله : أمر الله له بالإبلاغ إلى من أرسله إليه ، واشتقاقه من التتابع ، ومنه قولهم : جاء الناس أرسالا ، إذا اتبع بعضهم بعضا ، فكأنه ألزم تكرير التبليغ ، أو ألزمت الأمة اتباعه . الرسول
واختلف العلماء : ؟ فقيل : هما سواء ، وأصله من الإنباء ، وهو الإعلام ، واستدلوا بقوله - تعالى - : هل النبي ، والرسول بمعنى ، أو بمعنيين وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي [ الحج : 52 ] ، فقد أثبت لهما معا الإرسال ، قال : ولا يكون النبي إلا رسولا ، ولا الرسول إلا نبيا .
وقيل : هما مفترقان من وجه ، إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب ، والإعلام بخواص النبوة ، أو الرفعة لمعرفة ذلك ، وحوز درجتها ، وافترقا في زيادة الرسالة للرسول ، هو الأمر بالإنذار ، والإعلام كما قلنا .
وحجتهم من الآية نفسها التفريق بين الاسمين ، ولو كانا شيئا واحدا لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ ، قالوا : والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبي وليس بمرسل إلى أحد .
وقد ذهب بعضهم إلى أن الرسول من جاء بشرع مبتدأ ، ومن لم يأت به نبي غير رسول ، وإن أمر بالإبلاغ ، والإنذار .
والصحيح ، والذي عليه الجماء الغفير ، أن كل [ ص: 276 ] رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا .
وأول الرسل آدم ، وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - : إن مائة ألف ، وأربعة وعشرون ألف نبي الأنبياء .
وذكر أن منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أولهم الرسل آدم - عليه السلام - . فقد بان لك معنى النبوة ، والرسالة ، وليستا عند المحققين ذاتا للنبي ، ولا وصف ذات ، خلافا للكرامية في تطويل لهم وتهويل ليس عليه تعويل .
وأما فأصله الإسراع ، فلما كان النبي يتلقى ما يأتيه من ربه بعجل سمي وحيا ، وسميت أنواع الإلهامات وحيا ، تشبيها بالوحي إلى النبي ، وسمي الخط وحيا لسرعة حركة يد كاتبه ، ووحي الحاجب واللحظ سرعة إشارتهما ، ومنه قوله - تعالى - : الوحي فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ مريم : 11 ] ، أي أومأ ، ورمز ، وقيل : كتب ، ومنه قولهم : الوحا الوحا ، أي السرعة السرعة .
وقيل أصل الوحي السر والإخفاء ، ومنه سمي الإلهام وحيا ، ومنه : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم [ الأنعام : 121 ] ، أي يوسوسون في صدورهم ، ومنه قوله : وأوحينا إلى أم موسى [ القصص : 7 ] ، أي ألقي في قلبها .
وقد قيل ذلك في قوله - تعالى - : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ الشورى : 51 ] ، أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة .