الفصل الخامس :
nindex.php?page=treesubj&link=28899_28741_20759_32450إعجاز النظم ، والأسلوب
الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب ، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ، ومناهج نظمها ، ونثرها الذي جاء عليه ، ووقفت مقاطع آيه ، وانتهت فواصل كلماته إليه ، ولم يوجد قبله ، ولا بعده نظير له ، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، وتدلهت دونه أحلامهم ، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر ، أو نظم ، أو سجع ، أو رجز ، أو شعر .
ولما سمع كلامه - صلى الله عليه وسلم -
الوليد بن المغيرة ، وقرأ عليه القرآن رق ، فجاءه
أبو جهل منكرا
[ ص: 282 ] عليه قال : والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا .
وفي خبره الآخر حين جمع
قريش عند حضور الموسم ، وقال : إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأيا ، لا يكذب بعضكم بعضا ، فقالوا : نقول كاهن . قال : والله ما هو بكاهن . ما هو بزمزمته ، ولا سجعه .
قالوا : مجنون : قال : ما هو بمجنون ، ولا بخنقه ، ولا وسوسته .
قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر . قد عرفنا الشعر كله ، رجزه ، وهزجه ، وقريضه ، ومبسوطه ، ومقبوضه ، ما هو بشاعر .
قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر ، ولا نفثه ، ولا عقده .
قالوا : فما نقول ؟ قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئا ، إلا وأنا أعرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أنه ساحر ، فإنه سحر يفرق بين المرء ، وابنه ، والمرء ، وأخيه ، والمرء ، وزوجه ، والمرء ، وعشيرته .
فتفرقوا ، وجلسوا على السبل يحذرون الناس ، فأنزل الله - تعالى - في
الوليد :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذرني ومن خلقت وحيدا [ المدثر : 11 ] الآيات . وقال
عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن : يا قوم ، قد علمتم أني لم أترك شيئا إلا وقد علمته ، وقرأته ، وقلته ، والله لقد سمعت قولا ، والله ما سمعت مثله قط ، ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة .
وقال
النضر بن الحارث نحوه .
وفي حديث إسلام
أبي ذر ، ووصف أخاه
أنيسا ، فقال : والله ما سمعت بأشعر من أخي
أنيس ، لقد ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية ، أنا أحدهم ، وإنه انطلق إلى
مكة ، وجاء إلى
أبي ذر بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر ، كاهن ، ساحر ، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم ، وما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، وإنه لصادق ، وإنهم لكاذبون . والأخبار في هذا صحيحة كثيرة . والإعجاز بكل واحد من النوعين : الإيجاز ، والبلاغة بذاتها ، أو الأسلوب الغريب بذاته ، كل واحد منهما نوع إعجاز على التحقيق ، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما ، إذ كل واحد خارج عن قدرتها ، مباين لفصاحتها ، وكلامها ، وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين .
وذهب بعض المقتدى بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة ، والأسلوب ، وأتى على ذلك بقول تمجه الأسماع ، وتنفر منه القلوب .
والصحيح ما قدمناه ، والعلم بهذا كله ضرورة قطعا .
ومن تفنن في علوم البلاغة ، وأرهف خاطره ، ولسانه أدب هذه الصناعة لم يخف عليه ما قلناه .
وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جمع في قوة جزالته ، ونصاعة ألفاظه ، وحسن نظمه ،
[ ص: 283 ] وإيجازه ، وبديع تأليفه ، وأسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البشر ، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن أقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ، وقلب العصا ، وتسبيح الحصى .
وذهب الشيخ
أبو الحسن إلى أن مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ولا يكون ، فمنعهم الله هذا وعجزهم عنه .
وقال به جماعة من أصحابه .
وعلى الطريقين فعجز العرب عنه ثابت ، وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر ، وتحديهم بأن يأتوا بمثله قاطع ، وهو أبلغ في التعجيز ، وأحرى بالتقريع ، والاحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم ، وهو أبهر آية ، وأقمع دلالة .
وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال ، بل صبروا على الجلاء ، والقتل ، وتجرعوا كاسات الصغار ، والذل ، وكانوا من شموخ الأنف ، وإباءة الضيم ، بحيث لا يؤثرون ذلك اختيارا ، ولا يرضونه إلا اضطرارا ، وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم ، والشغل بها أهون عليهم ، وأسرع بالنجح ، وقطع العذر ، وإفحام الخصم لديهم ، وهم ممن لهم قدرة على الكلام ، وقدوة في المعرفة به لجميع الأنام ، وما منهم إلا من جهد جهده ، واستنفد ما عنده في إخفاء ظهوره ، وإطفاء نوره ، فما جلوا في ذلك خبيئة من بنات شفاههم ، ولا أتوا بنطفة من معين مياههم ، مع طول الأمد ، وكثرة العدد ، وتظاهر الوالد وما ولد ، بل أبلسوا فما نبسوا ، ومنعوا فانقطعوا ، فهذان نوعان من إعجازه .
الْفَصْلُ الْخَامِسُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28899_28741_20759_32450إِعْجَازُ النَّظْمِ ، وَالْأُسْلُوبِ
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ ، وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَمَنَاهِجِ نَظْمِهَا ، وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ ، وَوَقَفَتْ مَقَاطِعُ آيِهِ ، وَانْتَهَتْ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ ، وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ ، وَلَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مُمَاثَلَةَ شَيْءٍ مِنْهُ ، بَلْ حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ ، وَتَدَلَّهَتْ دُونَهُ أَحْلَامُهُمْ ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مِثْلِهِ فِي جِنْسِ كَلَامِهِمْ مِنْ نَثْرٍ ، أَوْ نَظْمٍ ، أَوْ سَجْعٍ ، أَوْ رَجَزٍ ، أَوْ شِعْرٍ .
وَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ رَقَّ ، فَجَاءَهُ
أَبُو جَهْلٍ مُنْكِرًا
[ ص: 282 ] عَلَيْهِ قَالَ : وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا .
وَفِي خَبَرِهِ الْآخَرِ حِينَ جَمَعَ
قُرَيْشَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْسِمِ ، وَقَالَ : إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَرِدُ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا ، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، فَقَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ . قَالَ : وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ . مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ ، وَلَا سَجْعِهِ .
قَالُوا : مَجْنُونٌ : قَالَ : مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ ، وَلَا بِخَنْقِهِ ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ .
قَالُوا : فَنَقُولُ شَاعِرٌ . قَالَ : مَا هُوَ بِشَاعِرٍ . قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ ، رَجَزَهُ ، وَهَزَجَهُ ، وَقَرِيضَهُ ، وَمَبْسُوطَهُ ، وَمَقْبُوضَهُ ، مَا هُوَ بِشَاعِرٍ .
قَالُوا : فَنَقُولُ سَاحِرٌ . قَالَ : مَا هُوَ بِسَاحِرٍ ، وَلَا نَفْثِهِ ، وَلَا عَقْدِهِ .
قَالُوا : فَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ : مَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا ، إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّهُ بَاطِلٌ ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنَّهُ سَاحِرٌ ، فَإِنَّهُ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ ، وَابْنِهِ ، وَالْمَرْءِ ، وَأَخِيهِ ، وَالْمَرْءِ ، وَزَوْجِهِ ، وَالْمَرْءِ ، وَعَشِيرَتِهِ .
فَتَفَرَّقُوا ، وَجَلَسُوا عَلَى السُّبُلِ يُحَذِّرُونَ النَّاسَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي
الْوَلِيدِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [ الْمُدَّثِّرِ : 11 ] الْآيَاتِ . وَقَالَ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ : يَا قَوْمُ ، قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ ، وَقَرَأْتُهُ ، وَقُلْتُهُ ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا ، وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ ، مَا هُوَ بِالشِّعْرِ ، وَلَا بِالسِّحْرِ ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ .
وَقَالَ
النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ نَحْوَهُ .
وَفِي حَدِيثِ إِسْلَامِ
أَبِي ذَرٍّ ، وَوَصَفَ أَخَاهُ
أُنَيْسًا ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِأَشْعَرَ مِنْ أَخِي
أُنَيْسٍ ، لَقَدْ نَاقَضَ اثْنَيْ عَشَرَ شَاعِرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، أَنَا أَحَدُهُمْ ، وَإِنَّهُ انْطَلَقَ إِلَى
مَكَّةَ ، وَجَاءَ إِلَى
أَبِي ذَرٍّ بِخَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . قُلْتُ : فَمَا يَقُولُ النَّاسُ ؟ قَالَ : يَقُولُونَ : شَاعِرٌ ، كَاهِنٌ ، سَاحِرٌ ، لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ ، وَلَقَدْ وَضَعْتُهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَلَمْ يَلْتَئِمْ ، وَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ ، وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ . وَالْإِعْجَازُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ : الْإِيجَازُ ، وَالْبَلَاغَةُ بِذَاتِهَا ، أَوِ الْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ بِذَاتِهِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ إِعْجَازٍ عَلَى التَّحْقِيقِ ، لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهَا ، مُبَايِنٌ لِفَصَاحَتِهَا ، وَكَلَامِهَا ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ إِلَى أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ الْبَلَاغَةِ ، وَالْأُسْلُوبِ ، وَأَتَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلٍ تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ .
وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ ضَرُورَةٌ قَطْعًا .
وَمَنْ تَفَنَّنَ فِي عُلُومِ الْبَلَاغَةِ ، وَأَرْهَفَ خَاطِرَهُ ، وَلِسَانَهُ أَدَبُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا قُلْنَاهُ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي وَجْهِ عَجْزِهِمْ عَنْهُ ، فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ : إِنَّهُ مَا جَمَعَ فِي قُوَّةِ جَزَالَتِهِ ، وَنَصَاعَةِ أَلْفَاظِهِ ، وَحُسْنِ نَظْمِهِ ،
[ ص: 283 ] وَإِيجَازِهِ ، وَبَدِيعِ تَأْلِيفِهِ ، وَأُسْلُوبِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَوَارِقِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ أَقْدَارِ الْخَلْقِ عَلَيْهَا ، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَقَلْبِ الْعَصَا ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَى .
وَذَهَبَ الشَّيْخُ
أَبُو الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ ، وَيُقَدِّرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا يَكُونُ ، فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ هَذَا وَعَجَّزَهُمْ عَنْهُ .
وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنْهُ ثَابِتٌ ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ ، وَتَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَاطِعٌ ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّعْجِيزِ ، وَأَحْرَى بِالتَّقْرِيعِ ، وَالِاحْتِجَاجُ بِمَجِيءِ بِشَرٍ مِثْلِهِمْ بِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ لَازِمٌ ، وَهُوَ أَبْهَرُ آيَةٍ ، وَأَقْمَعُ دَلَالَةٍ .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِمَقَالٍ ، بَلْ صَبَرُوا عَلَى الْجَلَاءِ ، وَالْقَتْلِ ، وَتَجَرَّعُوا كَاسَاتِ الصَّغَارِ ، وَالذُّلِّ ، وَكَانُوا مِنْ شُمُوخِ الْأَنْفِ ، وَإِبَاءَةِ الضَّيْمِ ، بِحَيْثُ لَا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا ، وَلَا يَرْضَوْنَهُ إِلَّا اضْطِرَارًا ، وَإِلَّا فَالْمُعَارَضَةُ لَوْ كَانَتْ مِنْ قُدَرِهِمْ ، وَالشُّغْلُ بِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ ، وَأَسْرَعُ بِالنَّجْحِ ، وَقَطْعِ الْعُذْرِ ، وَإِفْحَامِ الْخَصْمِ لَدَيْهِمْ ، وَهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى الْكَلَامِ ، وَقُدْوَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ ، وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ جَهَدَ جَهْدَهُ ، وَاسْتَنْفَدَ مَا عِنْدَهُ فِي إِخْفَاءِ ظُهُورِهِ ، وَإِطْفَاءِ نُورِهِ ، فَمَا جَلَوْا فِي ذَلِكَ خَبِيئَةً مِنْ بَنَاتِ شِفَاهِهِمْ ، وَلَا أَتَوْا بِنُطْفَةٍ مِنْ مَعِينِ مِيَاهِهِمْ ، مَعَ طُولِ الْأَمَدِ ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ ، وَتَظَاهُرِ الْوَالِدِ وَمَا وَلَدَ ، بَلْ أَبْلَسُوا فَمَا نَبَسُوا ، وَمُنِعُوا فَانْقَطَعُوا ، فَهَذَانِ نَوْعَانِ مِنْ إِعْجَازِهِ .