الفصل السادس والعشرون : - معارفه ، وعلومه - صلى الله عليه وسلم
ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله له من المعارف ، والعلوم ، وخصه به من الاطلاع على [ ص: 342 ] جميع مصالح الدنيا ، والدين ، ومعرفته بأمور شرائعه ، وقوانين دينه ، وسياسة عباده ، ومصالح أمته ، وما كان في الأمم قبله ، وقصص الأنبياء ، والرسل ، والجبابرة ، والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه ، وحفظ شرائعهم ، وكتبهم ، ووعي سيرهم ، وسرد أنبائهم ، وأيام الله فيهم ، وصفات أعيانهم ، واختلاف آرائهم ، والمعرفة بمددهم ، وأعمارهم ، وحكم حكمائهم ، ومحاجة كل أمة من الكفرة ، ومعارضة كل فرقة من الكتابيين بما في كتبهم ، وإعلامهم بأسرارها ، ومخبآت علومها ، وإخبارهم بما كتموا من ذلك ، وغيروه .
إلى الاحتواء على لغات العرب ، وغريب ألفاظ فرقها ، والإحاطة بضروب فصاحتها ، والحفظ لأيامها ، وأمثالها ، وحكمها ، ومعاني أشعارها ، والتخصيص بجوامع كلمها .
إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة ، والحكم البينة لتقريب التفهيم للغامض ، والتبيين للمشكل ، إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه ، ولا تخاذل ، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق ، ومحامد الآداب ، وكل شيء مستحسن مفضل ، لم ينكر منه ملحد ذو عقل سليم شيئا إلا من جهة الخذلان .
بل كل جاحد له ، وكافر من الجاهلية به إذا سمع ما يدعو إليه صوبه ، واستحسنه دون طلب إقامة برهان عليه .
ثم ما أحل لهم من الطيبات ، وحرم عليهم من الخبائث ، وصان به أنفسهم ، وأعراضهم ، وأموالهم من المعاقبات ، والحدود عاجلا ، والتخويف بالنار آجلا مما لا يعلم علمه ، ولا يقوم به ، إلا من مارس الدرس ، والعكوف على الكتب ، ومثافنة بعض هذا .
إلى الاحتواء على ضروب العلوم ، وفنون المعارف ، كالطب ، والعبارة ، والفرائض ، والحساب ، والنسب ، وغير ذلك من العلوم مما اتخذ أهل هذه المعارف كلامه - صلى الله عليه وسلم - فيها قدوة ، وأصولا في علمهم ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : الرؤيا لأول عابر . وهي على رجل طائر
وقوله : . الرؤيا ثلاث ، رؤيا حق ، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه ، ورؤيا تحزين من الشيطان
وقوله : . إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب
وقوله : أصل كل داء البردة .
وما روي عنه في حديث - رضي [ ص: 343 ] الله عنه - من قوله : أبي هريرة المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة وإن كان هذا حديثا لا نصححه لضعفه ، وكونه موضوعا تكلم عليه . الدارقطني
وقوله :
وخير الحجامة يوم سبع عشرة ، وتسع عشرة ، وإحدى وعشرين . خير ما تداويتم به السعوط ، واللدود ، والحجامة ، والمشي .
. وفي العود الهندي سبعة أشفية ، منها ذات الجنب
وقوله : . ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن ، - إلى قوله - فإن كان لا بد فثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس
وقوله ، وقد سبإ : أرجل هو أم امرأة ، أم أرض ؟ فقال : رجل ولد عشرة : تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة . . . الحديث بطوله . سئل عن
وكذلك جوابه في نسب قضاعة ، وغير ذلك مما اضطرت العرب على شغلها بالنسب إلى سؤاله عما اختلفوا فيه من ذلك .
وقوله : حمير رأس العرب ، ونابها : ومذحج هامتها ، وغلصمتها . والأزد كاهلها ، وجمجمتها ، وهمدان غاربها ، وذروتها .
وقوله : . إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض
وقوله في الحوض : زواياه سواء .
وقوله [ ص: 344 ] في حديث الذكر : . وإن الحسنة بعشر أمثالها ، فتلك مائة ، وخمسون على اللسان ، وألف وخمسمائة في الميزان
وقوله ، وهو بموضع : نعم موضع الحمام هذا .
وقوله . ما بين المشرق والمغرب قبلة
وقوله لعيينة ، أو الأقرع : . أنا أفرس بالخيل منك
وقوله لكاتبه : . ضع القلم على أذنك ، فإنه أذكر للمملي
هذا مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يكتب ، ولكنه أوتي علم كل شيء ، حتى قد وردت آثار بمعرفته حروف الخط ، وحسن تصويرها :
كقوله : لا تمدوا بسم الله الرحمن الرحيم رواه من طريق ابن شعبان ابن عباس .
وقوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنه كان يكتب بين يديه - صلى الله عليه وسلم - فقال له : ألق الدواة ، وحرف القلم ، وأقم الباء ، وفرق السين ، ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن وجود الرحيم .
وهذا ، وإن لم تصح الرواية أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا ويمنع القراءة ، والكتابة .
وأما علمه - صلى الله عليه وسلم - بلغات العرب ، وحفظه معاني أشعارها ، فأمر مشهور ، قد نبهنا على بعضه أول [ ص: 345 ] الكتاب .
وكذلك حفظه لكثير من لغات الأمم ، كقوله في الحديث : وهي حسنة بالحبشية . سنه ، سنه
وقوله : وهو القتل بها . ويكثر الهرج
وقوله في حديث : أبي هريرة أي ، وجع البطن بالفارسية . أشكنب درد
إلى غير ذلك مما لا يعلم بعض هذا ولا يقوم به ، ولا ببعضه إلا من مارس الدرس ، والعكوف على الكتب ، ومثافنة أهلها عمره .
وهو رجل كما قال الله - تعالى - أمي ، لم يكتب ، ولم يقرأ ، ولا عرف بصحبة من هذه صفته ، ولا نشأ بين قوم لهم علم ، ولا قراءة لشيء من هذه الأمور ، ولا عرف هو قبل بشيء منها ، قال الله - تعالى - : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك [ العنكبوت : 48 ] الآية .
إنما كانت غاية معارف العرب النسب ، وأخبار أوائلها ، والشعر ، والبيان وإنما حصل ذلك لهم بعد التفرغ لعلم ذلك ، والاشتغال بطلبه ، ومباحثة أهله عنه .
وهذا الفن نقطة من بحر علمه - صلى الله عليه وسلم - .
ولا سبيل إلى جحد الملحد لشيء مما ذكرناه ، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه إلا قولهم : أساطير الأولين : [ النحل : 24 ، والفرقان : 5 ] إنما يعلمه بشر [ النحل : 103 ] .
فرد الله قولهم بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] .
ثم ما قالوه مكابرة العيان فإن الذي نسبوا تعليمه إليه إما سلمان ، أو العبد الرومي ، وسلمان إنما عرفه بعد الهجرة ، ونزول الكثير من القرآن ، وظهور ما لا ينعد من الآيات .
وأما الرومي فكان أسلم ، وكان يقرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلف في اسمه .
وقيل : بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس عنده عند المروة ، وكلاهما أعجمي اللسان وهم الفصحاء اللد ، والخطباء اللسن ، قد عجزوا عن معارضة ما أتى به ، والإتيان بمثله ، بل عن فهم وصفه ، وصورة تأليفه ، ونظمه ، فكيف بأعجمي ألكن ! .
نعم ، وقد كان سلمان ، أو بلعام الرومي ، أو يعيش ، أو جبر ، أو يسار على اختلافهم في اسمه بين أظهرهم يكلمونهم مدى أعمارهم ، فهل حكي عن واحد منهم [ ص: 346 ] شيء من مثل ما كان يجيء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ وهل عرف واحد منهم بمعرفة شيء من ذلك ؟ وما منع العدو حينئذ على كثرة عدده ، ودءوب طلبه ، وقوة حسده - أن يجلس إلى هذا فيأخذ عليه أيضا ما يعارض به ، ويتعلم منه ما يحتج به على شيعته ، كفعل النضر بن الحارث بما كان يمخرق به من أخبار كتبه .
ولا غاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قومه ، ولا كثرت اختلافاته إلى بلاد أهل الكتاب ، فيقال : إنه استمد منهم ، بل لم يزل بين أظهرهم يرعى في صغره ، وشبابه ، على عادة أبنائهم ، ثم لم يخرج عن بلادهم إلا في سفرة أو سفرتين ، لم يطل فيهما مكثه مدة يحتمل فيها تعليم القليل ، فكيف الكثير ؟ ! .
بل كان في سفره في صحبة قومه ، ورفاقه ، وعشيرته ، لم يغب عنهم ، ولا خالف حاله مدة مقامه بمكة من تعليم ، واختلاف إلى حبر أو قس ، أو منجم ، أو كاهن .
بل لو كان هذا بعد كله لكان مجيء ما أتى به من معجز القرآن قاطعا لكل عذر ، ومدحضا لكل حجة ، ومجليا لكل أمر .