قال : وأما رعاية الأحوال فهو أن يعد الاجتهاد مراءاة ، واليقين تشبعا ، والحال دعوى . الدرجة الثانية من درجات الرعاية
أي يتهم نفسه في اجتهاده أنه راءى الناس . فلا يطغى به . ولا يسكن إليه . ولا يعتد به .
وأما عده اليقين تشبعا . فالتشبع : افتخار الإنسان بما لا يملكه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : . المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور
وعد اليقين تشبعا : يحتمل وجهين : أحدهما : أن ما حصل له من اليقين لم يكن به ، ولا منه ، ولا استحقه بعوض . وإنما هو فضل الله وعطاؤه ، ووديعته عنده ، ومجرد منته عليه . فهو خلعة خلعها سيده عليه . والعبد وخلعته ملكه وله . فما للعبد في اليقين مدخل . وإنما هو متشبع بما هو ملك لله وفضله ومنته على عبده .
والوجه الثاني : أن يتهم يقينه ، وأنه لم يحصل له اليقين على الوجه الذي ينبغي ، بل ما حصل له منه هو كالعارية لا الملك المستقر ، فهو متشبع بزعم نفسه بأن اليقين ملكه وله . وليس كذلك . وهذا لا يختص باليقين ، بل بسائر الأحوال . فالصادق يعد صدقه تشبعا . وكذا المخلص يعد إخلاصه . وكذا العالم . لاتهامه لصدقه وإخلاصه وعلمه . وأنه لم ترسخ قدمه في ذلك . ولم يحصل له فيه ملكة . فهو كالمتشبع به .
ولما كان اليقين روح الأعمال وعمودها ، وذروة سنامها خصه بالذكر . تنبيها على ما دونه .
والحاصل أنه يتهم نفسه في حصول اليقين . فإذا حصل فليس حصوله به ولا منه ، ولا له فيه شيء ، فهو يذم نفسه في عدم حصوله . ولا يحمدها عند حصوله .
وأما عد الحال دعوى ؛ أي دعوى كاذبة ، اتهاما لنفسه ، وتطهيرا لها من رعونة [ ص: 64 ] الدعوى ، وتخليصا للقلب من نصيب الشيطان . فإن الدعوى من نصيب الشيطان . وكذلك القلب الساكن إلى الدعوى مأوى الشيطان . أعاذنا الله من الدعوى ومن الشيطان .