قال : وهو على ثلاث درجات : الدرجة الأولى : ، والإذعان لما يغالب القياس من سير الدول والقسم ، والإجابة لما يفزع المريد من ركوب الأحوال . تسليم ما يزاحم العقول مما سبق على الأوهام من الغيب
اعلم أن التسليم هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر ، أو شهوة تعارض الأمر ، أو إرادة تعارض الإخلاص ، أو اعتراض يعارض القدر والشرع . [ ص: 147 ] وصاحب هذا التخلص : هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به ، فإن التسليم ضد المنازعة .
والمنازعة : إما بشبهة فاسدة ، تعارض الإيمان بالخبر عما وصف الله به نفسه من صفاته وأفعاله ، وما أخبر به عن اليوم الآخر ، وغير ذلك . فالتسليم له : ترك منازعته بشبهات المتكلمين الباطلة .
وإما بشهوة تعارض أمر الله عز وجل . فالتسليم للأمر بالتخلص منها .
أو إرادة تعارض مراد الله من عبده ، فتعارضه إرادة تتعلق بمراد العبد من الرب . فالتسليم : بالتخلص منها .
أو اعتراض يعارض حكمته في خلقه وأمره ، بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع ، وخلاف ما قضى وقدر . فالتسليم : التخلص من هذه المنازعات كلها .
وبهذا يتبين أنه من أجل مقامات الإيمان ، وأعلى طرق الخاصة ، وأن التسليم هو محض الصديقية ، التي هي بعد درجة النبوة ، وأن أكمل الناس تسليما : أكملهم صديقية .
فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ .
فأما قوله : تسليم ما يزاحم العقول مما سبق على الأوهام
فيعني : أن التسليم يقتضي ما ينهى عنه العقل ويزاحمه . فإنه يقتضي التجريد عن الأسباب . والعقل يأمر بها . فصاحب التسليم يسلم إلى الله عز وجل ما هو غيب عن العبد . فإن فعله سبحانه وتعالى لا يتوقف على هذه الأسباب التي ينهى العقل عن التجرد عنها . فإذا سلم لله لم يلتفت إلى السبب في كل ما غاب عنه .
فالأوهام يسبق عليها : أن ما غاب عنها من الحكم لا يحصل إلا بالأسباب . والتسليم يقتضي التجرد عنها . والعقل ينهى عن ذلك . والوهم قد سبق عليه أن الغيب موقوف عليها .
فهاهنا أمور ستة : عقل ، ومزاحم له ، ووهم ، وسائق إليه ، وغيب ، وتسليم لهذا المزاحم .
فالعقل هو الباعث له على الأسباب ، الداعي له إليها ، التي إذا خرج الرجل [ ص: 148 ] عنها عد خروجه قدحا في عقله .
والمزاحم له : التجرد عنها بكمال التسليم إلى من بيده أزمة الأمور : مواردها ومصادرها .
والوهم : اعتقاده توقف حصول السعادة والنجاة ، وحصول المقدور - كائنا ما كان - عليها ، وأنه لولاها لما حصل المقدور .
وهذا هو السائق إلى الوهم .
والغيب : هو الحكم الذي غاب عنه . وهو فعل الله .
والتسليم : تسليم هذا المزاحم إلى نفس الحكم .
مع أن في تنزيل عبارته على هذا المعنى ، وإفراغ هذا المعنى في قوالب ألفاظه نظرا .
وفيه وجه آخر : وهو أن يكون المراد : التسليم لما يبدو للعبد من معاني الغيب مما يزاحم معقوله في بادي الرأي ، لما يسبق إلى وهمه : أن الأمر بخلافه . فيسبق على الأوهام من الغيب الذي أخبرت به شيء يزاحم معقولها فتقع المنازعة بين حكم العقل وحكم الوهم . فإن كثيرا من الغيب قد يزاحم العقل بعض المزاحمة ، ويسبق إلى الوهم خلافه . فالتسليم : تسليم هذا المزاحم إلى وليه ، ومن هو أخبر به ، والتجرد عما يسبق إلى الوهم مما يخالفه .
وهذا أولى المعنيين بكلامه . إن شاء الله .
فالأول : تسليم منازعات الأسباب لتجريد التوحيد العملي القصدي الإرادي . وهذا تجريد منازعات الأوهام المخالفة للخبر لتجريد التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي . وهذا . حقيقة التسليم
قوله : والإذعان لما يغالب القياس ، من سير الدول والقسم .
أي الانقياد لما يقاوي عقله وقياسه ، مما جرى به حكم الله في الدول قديما وحديثا : من طي دولة ، ونشر دولة ، وإعزاز هذه وإذلال هذه ، والقسم التي قسمها على خلقه ، مع شدة تفاوتها ، وتباين مقاديرها ، وكيفياتها وأجناسها ، فيذعن لحكمة الله في كل ذلك ، ولا يعترض على ما وقع منها بشبهة وقياس .
ويحتمل أن يكون مراده ب " الدول والقسم " الأحوال التي تتداول على السالك ويختلف سيرها . والقسم التي نالته من الله : ما كان قياس سعيه واجتهاده أن يحصل له أكثر منها . فيذعن لما غالب قياسه منها ، ويسلم للقاسم المعطي بحكمته وعدله . فإن من [ ص: 149 ] عباده من لا يصلحه إلا الفقر . ولو أغناه لأفسده ذلك . ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى . ولو أفقره لأفسده ذلك . ومنهم من لا يصلحه إلا المرض . ولو أصحه لأفسده ذلك . ومنهم من لا يصلحه إلا الصحة . ولو أمرضه لأفسده ذلك .
قوله : والإجابة لما يفزع المريد من ركوب الأحوال .
يقول : إن صاحب هذه الدرجة من قوة التسليم يهجم على الأمور المفزعة ، ولا يلتفت إليها . ولا يخاف معها من ركوب الأحوال ، واقتحام الأهوال ؛ لأن قوة تسليمه تحميه من خطرها . فلا ينبغي له أن يخاف . فإنه في حصن التسليم ومنعته وحمايته . والله سبحانه وتعالى الموفق بحوله وقوته .