وهو على ثلاثة أنواع : صبر بالله . وصبر لله . وصبر مع الله .
فالأول : صبر الاستعانة به ، ورؤيته أنه هو المصبر ، وأن . كما قال تعالى : ( صبر العبد بربه لا بنفسه واصبر وما صبرك إلا بالله ) يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر .
[ ص: 157 ] والثاني : الصبر لله . وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله ، وإرادة وجهه . والتقرب إليه . لا لإظهاره قوة النفس ، والاستحماد إلى الخلق ، وغير ذلك من الأعراض .
والثالث : الصبر مع الله . وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه . ومع أحكامه الدينية . صابرا نفسه معها ، سائرا بسيرها . مقيما بإقامتها . يتوجه معها أين توجهت ركائبها . وينزل معها أين استقلت مضاربها .
فهذا معنى كونه صابرا مع الله ؛ أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه . وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها . وهو صبر الصديقين .
قال الجنيد : المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن . وهجران الخلق في جنب الله شديد ، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد . والصبر مع الله أشد .
وسئل عن الصبر ؟ فقال : تجرع المرارة من غير تعبس .
قال : الصبر : التباعد من المخالفات . والسكون عند تجرع غصص البلية . وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة . ذو النون المصري
وقيل : . الصبر : الوقوف مع البلاء بحسن الأدب
وقيل : هو الفناء في البلوى ، بلا ظهور ولا شكوى .
وقيل : تعويد النفس الهجوم على المكاره .
وقيل : المقام مع البلاء بحسن الصحبة ، كالمقام مع العافية .
وقال : هو الثبات مع الله ، وتلقي بلائه بالرحب والدعة . عمرو بن عثمان
وقال الخواص : هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة .
وقال : صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين . واعجبا ! كيف يصبرون ؟ وأنشد : يحيى بن معاذ
والصبر يجمل في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يجمل
وقيل : الصبر هو الاستعانة بالله .[ ص: 158 ] وقيل : هو ترك الشكوى .
وقيل :
الصبر مثل اسمه ، مر مذاقته ، لكن عواقبه أحلى من العسل
سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري
وقال رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو . علي بن أبي طالب
وقف رجل على الشبلي . فقال : أي صبر أشد على الصابرين ؟ فقال : الصبر في الله . قال السائل : لا . فقال : الصبر لله . فقال : لا . فقال : الصبر مع الله . فقال : لا . قال الشبلي : فإيش هو ؟ قال : الصبر عن الله . فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف .
وقال الجريري : الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة وحال المحبة ، مع سكون الخاطر فيهما . والتصبر : هو السكون مع البلاء ، مع وجدان أثقال المحنة .
قال أبو علي الدقاق : فاز الصابرون بعز الدارين ؛ لأنهم نالوا من الله معيته . فإن الله مع الصابرين .
وقيل في قوله تعالى : ( اصبروا وصابروا ورابطوا ) . إنه انتقال من الأدنى إلى الأعلى . فالصبر دون المصابرة . والمصابرة دون المرابطة والمرابطة مفاعلة من الربط وهو الشد . وسمي المرابط مرابطا لأن المرابطين يربطون خيولهم ينتظرون الفزع . ثم قيل لكل منتظر قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها : مرابط . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : . [ ص: 159 ] وقال : ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط . رباط يوم في سبيل الله : خير من الدنيا وما فيها
وقيل : اصبروا بنفوسكم على طاعة الله . وصابروا بقلوبكم على البلوى في الله . ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله .
وقيل : اصبروا في الله . وصابروا بالله . ورابطوا مع الله .
وقيل : اصبروا على النعماء . وصابروا على البأساء والضراء . ورابطوا في دار الأعداء . واتقوا إله الأرض والسماء . لعلكم تفلحون في دار البقاء .
فالصبر مع نفسك ، والمصابرة بينك وبين عدوك ، والمرابطة الثبات وإعداد العدة . وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو . فكذلك الرباط أيضا لزوم ثغر القلب لئلا يهجم عليه الشيطان ، فيملكه ويخربه أو يشعثه .
وقيل : تجرع الصبر ، فإن قتلك قتلك شهيدا . وإن أحياك أحياك عزيزا .
وقيل : الصبر لله غناء . وبالله تعالى بقاء . وفي الله بلاء . ومع الله وفاء . وعن الله جفاء . والصبر على الطلب عنوان الظفر . وفي المحن عنوان الفرج .
وقيل : حال العبد مع الله رباطه . وما دون الله أعداؤه .
وفي كتاب الأدب للبخاري . ذكره عن سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ؟ فقال : الصبر ، والسماحة . قال : حدثنا موسى بن إسماعيل سويد قال : حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده فذكره .
وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا ، وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها .
فإن النفس يراد منها شيئان : بذل ما أمرت به ، وإعطاؤه . فالحامل عليه : [ ص: 160 ] السماحة . وترك ما نهيت عنه ، والبعد منه . فالحامل عليه : الصبر .
وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل ، والصفح الجميل ، والهجر الجميل . فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه . والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه . والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه .
وفي أثر إسرائيلي : أوحى الله إلى نبي من أنبيائه : أنزلت بعبدي بلائي ، فدعاني . فماطلته بالإجابة ، فشكاني . فقلت : عبدي ، كيف أرحمك من شيء به أرحمك ؟ .
وقال في قوله تعالى : ( ابن عيينة وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) قال : أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء .
وقيل : صبر العابدين أحسنه : أن يكون محفوظا ، وصبر المحبين أحسنه : أن يكون مرفوضا . كما قيل :
تبين يوم البين أن اعتزامه على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
وإنما ينافي الصبر شكوى الله ، لا الشكوى إلى الله . كما رأى بعضهم رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة . فقال : يا هذا ، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ؟ ثم أنشد :
وإذا عرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم