الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل منزلة الرضا

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرضا

وقد أجمع العلماء على أنه مستحب ، مؤكد استحبابه . واختلفوا في وجوبه على قولين .

[ ص: 170 ] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يحكيهما على قولين لأصحاب أحمد . وكان يذهب إلى القول باستحبابه .

قال : ولم يجئ الأمر به ، كما جاء الأمر بالصبر . وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم .

قال : وأما ما يروى من الأثر : من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ ربا سوائي . فهذا أثر إسرائيلي ، ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : ولا سيما عند من يرى أنه من جملة الأحوال التي ليست بمكتسبة ، بل هو موهبة محضة . فكيف يؤمر به . وليس مقدورا عليه ؟

وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك على ثلاث طرق

فالخراسانيون قالوا : الرضا من جملة المقامات . وهو نهاية التوكل . فعلى هذا : يمكن أن يتوصل إليه العبد باكتسابه .

والعراقيون قالوا : هو من جملة الأحوال . وليس كسبيا للعبد ، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال .

والفرق بين المقامات والأحوال : أن المقامات عندهم من المكاسب . والأحوال مجرد المواهب .

وحكمت فرقة ثالثة بين الطائفتين . منهم القشيري - صاحب الرسالة - وغيره ، فقالوا : يمكن الجمع بينهما ، بأن يقال : بداية الرضا مكتسبة للعبد . وهي من جملة المقامات . ونهايته من جملة الأحوال . وليست مكتسبة . فأوله مقام ، ونهايته حال .

واحتج من جعله من جملة المقامات : بأن الله مدح أهله ، وأثنى عليهم وندبهم إليه . فدل ذلك على أنه مقدور لهم .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا .

[ ص: 171 ] وقال : من قال حين يسمع النداء : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، غفرت له ذنوبه .

وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين ، وإليهما ينتهي . وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته . والرضا برسوله ، والانقياد له . والرضا بدينه ، والتسليم له ، ومن اجتمعت له هذه الأربعة : فهو الصديق حقا . وهي سهلة بالدعوى واللسان . وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان . ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها . من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا . فهو على لسانه لا على حاله .

فالرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ، والتبتل إليه ، وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه . فعل الراضي بمحبوبه كل الرضا . وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له .

والرضا بربوبيته : يتضمن الرضا بتدبيره لعبده . ويتضمن إفراده بالتوكل عليه . والاستعانة به ، والثقة به ، والاعتماد عليه . وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به .

فالأول : يتضمن رضاه بما يؤمر به . والثاني : يتضمن رضاه بما يقدر عليه .

وأما الرضا بنبيه رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له . والتسليم المطلق إليه ، بحيث يكون أولى به من نفسه . فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته . ولا يحاكم إلا إليه . ولا يحكم عليه غيره ، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة . لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله . ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته . ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه . لا يرضى في ذلك بحكم غيره . ولا يرضى إلا بحكمه . فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم . وأحسن أحواله : أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور .

وأما الرضا بدينه : فإذا قال ، أو حكم ، أو أمر ، أو نهى : رضي كل الرضا . ولم يبق في قلبه حرج من حكمه . وسلم له تسليما . ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها ، أو قول مقلده وشيخه وطائفته .

[ ص: 172 ] وهاهنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم . فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد . فإنه والله عين العزة ، والصحبة مع الله ورسوله ، وروح الأنس به . والرضا به ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وبالإسلام دينا .

بل الصادق كلما وجد مس الاغتراب ، وذاق حلاوته ، وتنسم روحه . قال : اللهم زدني اغترابا ، ووحشة من العالم ، وأنسا بك . وكلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب ، وهذا التفرد : رأى الوحشة عين الأنس بالناس ، والذل عين العز بهم . والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزبالة أذهانهم ، والانقطاع عين التقيد برسومهم وأوضاعهم . فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق . ولم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يجدي عليه إلا الحرمان . وغايته : مودة بينهم في الحياة الدنيا . فإذا انقطعت الأسباب . وحقت الحقائق ، وبعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، وبليت السرائر ، ولم يجد من دون مولاه الحق من قوة ولا ناصر : تبين له حينئذ مواقع الربح والخسران . وما الذي يخف أو يرجح به الميزان . والله المستعان ، وعليه التكلان .

والتحقيق في المسألة : أن الرضا كسبي باعتبار سببه ، موهبي باعتبار حقيقته . فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه . فإذا تمكن في أسبابه وغرس شجرته : اجتنى منها ثمرة الرضا . فإن الرضا آخر التوكل . فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض : حصل له الرضا ولا بد . ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له ، وصعوبته عليها - لم يوجبه الله على خلقه . رحمة بهم ، وتخفيفا عنهم . لكن ندبهم إليه . وأثنى على أهله ، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم ، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها . فمن رضي عن ربه رضي الله عنه . بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه . فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده : رضا قبله ، أوجب له أن يرضى عنه ، ورضا بعده . هو ثمرة رضاه عنه . ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العارفين ، وحياة المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة عيون المشتاقين .

ومن أعظم أسباب حصول الرضا : أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه . فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولا بد .

قيل ليحيى بن معاذ : متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا ؟ فقال : إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه ، فيقول : إن أعطيتني قبلت . وإن منعتني رضيت . وإن تركتني عبدت . وإن دعوتني أجبت .

وقال الجنيد : الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلب . فإذا باشر القلب [ ص: 173 ] حقيقة العلم أداه إلى الرضا .

وليس الرضا والمحبة كالرجاء والخوف . فإن الرضا والمحبة حالان من أحوال أهل الجنة . لا يفارقان المتلبس بهما في الدنيا ، ولا في البرزخ ، ولا في الآخرة . بخلاف الخوف والرجاء . فإنهما يفارقان أهل الجنة بحصول ما كانوا يرجونه ، وأمنهم مما كانوا يخافونه . وإن كان رجاؤهم لما ينالون من كرامته دائما ، لكنه ليس رجاء مشوبا بشك . بل هو رجاء واثق بوعد صادق ، من حبيب قادر . فهذا لون ورجاؤهم في الدنيا لون .

وقال ابن عطاء : الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل . فيرضى به .

قلت : وهذا رضا بما منه . وأما الرضا به : فأعلى من هذا وأفضل . ففرق بين من هو راض بمحبوبه ، وبين من هو راض بما يناله من محبوبه من حظوظ نفسه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية