قال : الدرجة الثانية أن تقرب من يقصيك . وتكرم من يؤذيك . وتعتذر إلى من يجني عليك ، سماحة لا كظما ، ومودة لا مصابرة .
هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب . فإن الأولى : تتضمن ترك المقابلة والتغافل . وهذه تتضمن ومعاملته بضد ما عاملك به . فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطتين . فخطتك : الإحسان . وخطته : الإساءة . وفي مثلها قال القائل : الإحسان إلى من أساء إليك ،
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها هذه بعينها . ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه . ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة . وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - وكان بعض أصحابه الأكابر يقول : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه .[ ص: 329 ] وما رأيته يدعو على أحد منهم قط ، وكان يدعو لهم .
وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه ، وأشدهم عداوة وأذى له . فنهرني وتنكر لي واسترجع . ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم ، وقال : إني لكم مكانه ، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه . ونحو هذا من الكلام . فسروا به ودعوا له . وعظموا هذه الحال منه . فرحمه الله ورضي عنه . وهذا مفهوم .
وأما الاعتذار إلى من يجني عليك فإنه غير مفهوم في بادي الرأي ، إذ لم يصدر منك جناية توجب اعتذارا ، وغايتك : أنك لا تؤاخذه . فهل تعتذر إليه من ترك المؤاخذة .
ومعنى هذا : أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه . والجاني خليق بالعذر .
والذي يشهدك هذا المشهد : أنك تعلم أنه إنما سلط عليك بذنب ، كما قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير .
فإذا علمت أنك بدأت بالجناية فانتقم بالله منك على يده - كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار .
والذي يهون عليك هذا كله : مشاهدة تلك المشاهد العشرة المتقدمة . فعليك بها . فإن فيها كنوز المعرفة والبر .
وقوله : سماحة لا كظما . ومودة ، لا مصابرة .
يعني : اجعل هذه المعاملة منك صادرة عن سماحة ، وطيبة نفس ، وانشراح صدر ، لا عن كظم ، وضيق ومصابرة . فإن ذلك دليل على أن هذا ليس في خلقك . وإنما هو تكلف يوشك أن يزول ويظهر حكم الخلق صريحا فتفتضح . وليس المقصود إلا إصلاح الباطن والسر والقلب .
وهذا الذي قاله الشيخ لا يمكن إلا بعد العبور على جسر المصابرة والكظم . فإذا تمكن منه أفضى به إلى هذه المنزلة بعون الله . والله أعلم .