فصل
قال : الدرجة الثالثة أن لا تتعلق في السير بدليل . ولا تشوب إجابتك بعوض . ولا تقف في شهودك على رسم .
[ ص: 330 ] هذه ثلاثة أمور اشتملت عليها هذه الدرجة .
أما عدم تعلقه في السير بدليل : فقد بين مراده به في آخر الباب ، إذ يقول : وفي علم الخصوص : من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم يحل له دعوى الفتوة أبدا .
وهذا موضع عظيم يحتاج إلى تبيين وتقدير .
والمراد : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29507السائر إلى الله يسير على قدم اليقين ، وطريق البصيرة والمشاهدة . فوقوفه مع الدليل : دليل على أنه لم يشم رائحة اليقين . والمراد بهذا : أن المعرفة عندهم ضرورية لا استدلالية . وهذا هو الصواب . ولهذا لم تدع الرسل قط الأمم إلى الإقرار بالصانع سبحانه وتعالى ، وإنما دعوهم إلى عبادته وتوحيده . وخاطبوهم خطاب من لا شبهة عنده قط في الإقرار بالله تعالى . ولا هو محتاج إلى الاستدلال عليه . ولهذا
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض وكيف يصح الاستدلال على مدلول هو أظهر من دليله ؟ حتى قال بعضهم : كيف أطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء ؟ فتقيد السائر بالدليل وتوقفه عليه ، دليل على عدم يقينه . بل إنما يتقيد بالدليل الموصل له إلى المطلوب بعد معرفته به . فإنه يحتاج - بعد معرفته - إلى دليل يوصله إليه ، ويدله على طريق الوصول إليه . وهذا الدليل : هو الرسول صلى الله عليه وسلم . فهو موقوف عليه يتقيد به . لا يخطو خطوة إلا وراءه .
وأيضا فالقوم يشيرون إلى الكشف ، ومشاهدة الحقيقة . وهذا لا يمكن طلبه بالدليل أصلا . ولا يقال : ما الدليل على حصول هذا ؟ وإنما يحصل بالسلوك في منازل السير ، وقطعها منزلة منزلة ، حتى يصل إلى المطلوب . فوصوله إليه بالسير لا بالاستدلال ، بخلاف وصول المستدل . فإنه إنما يصل إلى العلم ، ومطلوب القوم وراءه . والعلم منزلة من منازلهم - كما سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى - ولهذا يسمون أصحاب الاستدلال : أصحاب القال . وأصحاب الكشف : أصحاب الحال . والقوم عاملون على الكشف الذي يحصل نور العيان ، لا على العلم الذي ينال بالاستدلال والبرهان .
وهذا موضع غلط واشتباه . فإن الدليل في هذا المقام شرط ، وكذلك العلم . وهو باب لا بد من دخوله إلى المطلوب ، ولا يوصل إلى المطلوب إلا من بابه ، كما قال تعالى :
[ ص: 331 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=189وأتوا البيوت من أبوابها .
ثم إنه يخاف على من لا يقف مع الدليل ما هو أعظم الأمور وأشدها خطرا . وهو الانقطاع عن الطلب بالكلية ، والوصول إلى مجرد الخيال والمحال . فمن خرج عن الدليل : ضل سواء السبيل .
فإن قيل : تعلقه في المسير بالدليل : يفرق عليه عزمه وقلبه . فإن الدليل يفرق والمدلول يجمع . فالسالك يقصد الجمعية على المدلول . فما له ولتفرقة الدليل ؟
قيل : هذه البلية التي لأجلها أعرض من أعرض من السالكين عن العلم ونهى عنه . وجعلت علة في الطريق ، ووقع هذا من زمن الشيوخ القدماء العارفين فأنكروه غاية الإنكار . وتبرءوا منه ومن قائله . وأوصوا بالعلم . وأخبروا أن طريقهم مقيدة بالعلم . لا يفلح فيها من لم يتقيد بالعلم . و
الجنيد كان من أشد الناس مبالغة في الوصية بالعلم ، وحثا لأصحابه عليه .
والتفرق في الدليل خير من الجمعية على الوهم والخيال . فإنه لا يعرف كون الجمعية حقا إلا بالدليل والعلم .
nindex.php?page=treesubj&link=18467فالدليل والعلم ضروريان للصادق . لا يستغني عنهما .
نعم يقينه ونور بصيرته وكشفه : يغنيه عن كثير من الأدلة التي يتكلفها المتكلفون ، وأرباب القال . فإنه مشغول عنها بما هو أهم منها . وهو الغاية المطلوبة .
مثاله : أن المتكلم يفني زمانه في تقرير حدوث العالم ، وإثبات وجود الصانع . وذلك أمر مفروغ منه عند السالك الصادق صاحب اليقين . فالذي يطلبه هذا بالاستدلال - الذي هو عرضة الشبه ، والأسئلة ، والإيرادات التي لا نهاية لها - هو كشف ويقين للسالك ، فتقيده في سلوكه بحال هذا المتكلم انقطاع ، وخروج عن الفتوة .
وهذا حق لا ينازع فيه عارف ، فترى المتكلم يبحث في الزمان والمكان ، والجواهر والأعراض ، والأكوان ، وهمته مقصورة عليها لا يعدوها ليصل منها إلى المكون وعبوديته . والسالك قد جاوزها إلى جمع القلب على المكون وعبوديته بمقتضى أسمائه وصفاته . لا يلتفت إلى غيره . ولا يشتغل قلبه بسواه .
فالمتكلم متفرق مشتغل في معرفة حقيقة الزمان والمكان . والعارف قد شح بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان .
[ ص: 332 ] وبالجملة : فصاحب هذه الدرجة لا يتعلق في سيره بدليل . ولا يمكنه السير إلا خلف الدليل ، وكلاهما يجتمع في حقه . فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود المطلوب . ولا يستغني طرفة عين عن دليل يوصله إلى المطلوب . فسير الصادق على البصيرة واليقين والكشف ، لا على النظر والاستدلال .
وأما قوله : ولا تشوب إجابتك بعوض .
أي تكون إجابتك لداعي الحق خالصة ، إجابة محبة ورغبة ، وطلب للمحبوب ذاته ، غير مشوبة بطلب غيره من الحظوظ والأعواض ، فإنه متى حصل لك حصل لك كل عوض وكل حظ به وكل قسم . كما في الأثر الإلهي :
ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإن وجدتني ، وجدت كل شيء . وإن فتك فاتك كل شيء . وأنا أحب إليك من كل شيء .
فمن أعرض عن طلب ما سوى الله ، ولم يشب طلبه له بعوض ، بل كان حبا له ، وإرادة خالصة لوجهه ، فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلها . فإنه لما لم يجعلها غاية طلبه ، توفرت عليه في حصولها . وهو محمود مشكور مقرب . ولو كانت هي مطلوبة لنقصت عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرب تعالى لذاته وإرادته .
فهذا قلبه ممتلئ بها والحاصل له منها : نزر يسير . والعارف ليس قلبه متعلقا بها . وقد حصلت له كلها . فالزهد فيها لا يفيتكها ، بل هو عين حصولها . والزهد في الله هو الذي يفيتكه ويفيتك الحظوظ . وإذا كان لك أربعة عبيد . أحدهم : يريدك ولا يريد منك ، بل إرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك . والثاني : يريد منك ولا يريدك ، بل إرادته مقصورة على حظوظه منك . والثالث : يريدك ويريد منك . والرابع : لا يريدك ولا يريد منك . بل هو متعلق القلب ببعض عبيدك . فله يريد . ومنه يريد . فإن آثر العبيد عندك ، وأحبهم إليك ، وأقربهم منك منزلة ، والمخصوص من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيد الثلاثة - هو الأول . هكذا نحن عند الله سواء .
وأما قوله : ولا تقف في شهودك على رسم .
فيعني : أن لا يكون منك نظر إلى السوى عند الشهود ، كما تقدم مرارا .
وهذا عند القوم غير مكتسب . فإن الشهود إذا صح محا الرسوم ضرورة في نظر الشاهد . فلا حاجة إلى أن يشرط عليه عدم الوقوف عليها . والشهود الصحيح ماح لها بالذات . لكن أوله قد لا يستغني عن الكسب . ونهايته لا تقف على كسب .
قال : واعلم أن من أحوج عدوه إلى شفاعة ، ولم يخجل من المعذرة إليه : لم يشم
[ ص: 333 ] رائحة الفتوة .
يعني أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك ، ويشفع إليك شافعا يزيل ما في قلبك منه . فالفتوة كل الفتوة : أن لا تحوجه إلى الشفاعة ، بأن لا يظهر له منك عتب ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته . ولا تطوي عنه بشرك ولا برك . وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب .
ولا تستعظم هذا الخلق . فإن للفتيان ما هو أكبر منه . ولا تستصعبه . فإنه موجود في كثير من الشطار والعشراء الذين ليس لهم في حال المعرفة ولا في لسانها نصيب ، فأنت أيها العارف أولى به .
قال : وفي علم الخصوص : من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال : لم يحل له دعوى الفتوة أبدا .
كأنه يقول : إذا لم تحوج عدوك إلى العذر والشفاعة . ولم تكلفه طلب الاستدلال على صحة عذره ، فكيف تحوج وليك وحبيبك إلى أن يقيم لك الدليل على التوحيد والمعرفة ، ولا تشير إليه حتى يقيم لك دليلا على وجوده ووحدانيته ، وقدرته ومشيئته ؟ فأين هذا من درجة الفتوة ؟
وهل هذا إلا خلاف الفتوة من كل وجه ؟
ولو أن رجلا دعاك إلى داره . فقلت للرسول : لا آتي معك حتى تقيم لي الدليل على وجود من أرسلك ، وأنه مطاع ، وأنه أهل أن يغشى بابه . لكنت في دعوى الفتوة زنيما . فكيف بمن وجوده ، ووحدانيته ، وقدرته ، وربوبيته ، وإلهيته - أظهر من كل دليل تطلبه ؟ فما من دليل يستدل به ، إلا ووحدانية الله وكماله أظهر منه . فإقرار الفطر بالرب سبحانه خالق العالم : لم يوقفها عليه موقف .
ولم تحتج فيه إلى نظر واستدلال
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10أفي الله شك فاطر السماوات والأرض . فأبعد الناس من درجة الفتوة : طالب الدليل على ذلك .
فَصْلٌ
قَالَ : الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ . وَلَا تَشُوبَ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ . وَلَا تَقِفَ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ .
[ ص: 330 ] هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ .
أَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِهِ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ : فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ ، إِذْ يَقُولُ : وَفِي عِلْمُ الْخُصُوصِ : مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا .
وَهَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ وَتَقْدِيرٍ .
وَالْمُرَادُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29507السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ يَسِيرُ عَلَى قَدَمِ الْيَقِينِ ، وَطَرِيقِ الْبَصِيرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ . فَوُقُوفُهُ مَعَ الدَّلِيلِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْيَقِينِ . وَالْمُرَادُ بِهَذَا : أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ ضَرُورِيَّةٌ لَا اسْتِدْلَالِيَّةٌ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَلِهَذَا لَمْ تَدْعُ الرُّسُلُ قَطُّ الْأُمَمَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنَّمَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ . وَخَاطَبُوهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِ قَطُّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى . وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَدْلُولٍ هُوَ أَظْهَرُ مِنْ دَلِيلِهِ ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : كَيْفَ أَطْلُبُ الدَّلِيلَ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ؟ فَتَقَيُّدُ السَّائِرِ بِالدَّلِيلِ وَتَوَقُّفُهُ عَلَيْهِ ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ يَقِينِهِ . بَلْ إِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالدَّلِيلِ الْمُوصِّلِ لَهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ . فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ - بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ - إِلَى دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ ، وَيَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ . وَهَذَا الدَّلِيلُ : هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِهِ . لَا يَخْطُو خَطْوَةً إِلَّا وَرَاءَهُ .
وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ يُشِيرُونَ إِلَى الْكَشْفِ ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ . وَهَذَا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ بِالدَّلِيلِ أَصْلًا . وَلَا يُقَالُ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ هَذَا ؟ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّلُوكِ فِي مَنَازِلِ السَّيْرِ ، وَقَطْعِهَا مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً ، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَطْلُوبِ . فَوُصُولُهُ إِلَيْهِ بِالسَّيْرِ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ ، بِخِلَافِ وُصُولِ الْمُسْتَدِلِّ . فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ ، وَمَطْلُوبُ الْقَوْمِ وَرَاءَهُ . وَالْعِلْمُ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَصْحَابَ الِاسْتِدْلَالِ : أَصْحَابَ الْقَالِ . وَأَصْحَابَ الْكَشْفِ : أَصْحَابَ الْحَالِ . وَالْقَوْمُ عَامِلُونَ عَلَى الْكَشْفِ الَّذِي يُحَصِّلُ نُورَ الْعِيَانِ ، لَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي يُنَالُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْبُرْهَانِ .
وَهَذَا مَوْضِعُ غَلَطٍ وَاشْتِبَاهٍ . فَإِنَّ الدَّلِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَرْطٌ ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ . وَهُوَ بَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 331 ] nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=189وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا .
ثُمَّ إِنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَنْ لَا يَقِفُ مَعَ الدَّلِيلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأُمُورِ وَأَشَدُّهَا خَطَرًا . وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالْوُصُولِ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَيَالِ وَالْمُحَالِ . فَمَنْ خَرَجَ عَنِ الدَّلِيلِ : ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ .
فَإِنْ قِيلَ : تَعَلُّقُهُ فِي الْمَسِيرِ بِالدَّلِيلِ : يُفَرِّقُ عَلَيْهِ عَزْمَهُ وَقَلْبَهُ . فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُفَرِّقُ وَالْمَدْلُولَ يُجَمِّعُ . فَالسَّالِكُ يَقْصِدُ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى الْمَدْلُولِ . فَمَا لَهُ وَلِتَفْرِقَةِ الدَّلِيلِ ؟
قِيلَ : هَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَعْرَضَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ السَّالِكِينَ عَنِ الْعِلْمِ وَنَهَى عَنْهُ . وَجُعِلَتْ عِلَّةً فِي الطَّرِيقِ ، وَوَقَعَ هَذَا مِنْ زَمَنِ الشُّيُوخِ الْقُدَمَاءِ الْعَارِفِينَ فَأَنْكَرُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ . وَتَبَرَّءُوا مِنْهُ وَمِنْ قَائِلِهِ . وَأَوْصَوْا بِالْعِلْمِ . وَأَخْبَرُوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ . لَا يُفْلِحُ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالْعِلْمِ . وَ
الْجُنَيْدُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُبَالَغَةً فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِلْمِ ، وَحَثًّا لِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ .
وَالتَّفَرُّقُ فِي الدَّلِيلِ خَيْرٌ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ . فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْجَمْعِيَّةِ حَقًّا إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالْعِلْمِ .
nindex.php?page=treesubj&link=18467فَالدَّلِيلُ وَالْعِلْمُ ضَرُورِيَّانِ لِلصَّادِقِ . لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا .
نَعَمْ يَقِينُهُ وَنُورُ بَصِيرَتِهِ وَكَشْفُهُ : يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا الْمُتَكَلِّفُونَ ، وَأَرْبَابُ الْقَالِ . فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا . وَهُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ .
مِثَالُهُ : أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُفْنِي زَمَانَهُ فِي تَقْرِيرِ حُدُوثِ الْعَالَمِ ، وَإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ . وَذَلِكَ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ عِنْدَ السَّالِكِ الصَّادِقِ صَاحِبِ الْيَقِينِ . فَالَّذِي يَطْلُبُهُ هَذَا بِالِاسْتِدْلَالِ - الَّذِي هُوَ عُرْضَةُ الشَّبَهِ ، وَالْأَسْئِلَةِ ، وَالْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا - هُوَ كَشْفٌ وَيَقِينٌ لِلسَّالِكِ ، فَتَقَيُّدُهُ فِي سُلُوكِهِ بِحَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ انْقِطَاعٌ ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْفُتُوَّةِ .
وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَارِفٌ ، فَتَرَى الْمُتَكَلِّمَ يَبْحَثُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ ، وَالْأَكْوَانِ ، وَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا لَا يَعُدُوهَا لِيَصِلَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ . وَالسَّالِكُ قَدْ جَاوَزَهَا إِلَى جَمْعِ الْقَلْبِ عَلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ . وَلَا يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِسِوَاهُ .
فَالْمُتَكَلِّمُ مُتَفَرِّقٌ مُشْتَغِلٌ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . وَالْعَارِفُ قَدْ شَحَّ بِالزَّمَانِ أَنْ يَذْهَبَ ضَائِعًا فِي غَيْرِ السَّيْرِ إِلَى رَبِّ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ .
[ ص: 332 ] وَبِالْجُمْلَةِ : فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا يَتَعَلَّقُ فِي سَيْرِهِ بِدَلِيلٍ . وَلَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِلَّا خَلْفَ الدَّلِيلِ ، وَكِلَاهُمَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ . فَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ . وَلَا يَسْتَغْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنْ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ . فَسَيْرُ الصَّادِقِ عَلَى الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ وَالْكَشْفِ ، لَا عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَا تَشُوبُ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ .
أَيْ تَكُونُ إِجَابَتُكَ لِدَاعِي الْحَقِّ خَالِصَةً ، إِجَابَةَ مَحَبَّةٍ وَرَغْبَةٍ ، وَطَلَبٍ لِلْمَحْبُوبِ ذَاتِهِ ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُظُوظِ وَالْأَعْوَاضِ ، فَإِنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَكَ حَصَلَ لَكَ كُلُّ عِوَضٍ وَكُلُّ حَظٍّ بِهِ وَكُلُّ قَسَمٍ . كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ :
ابْنَ آدَمَ ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي ، فَإِنْ وَجَدْتَنِي ، وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ . وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ . وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ طَلَبِ مَا سِوَى اللَّهِ ، وَلَمْ يَشُبْ طَلَبَهُ لَهُ بِعِوَضٍ ، بَلْ كَانَ حُبًّا لَهُ ، وَإِرَادَةً خَالِصَةً لِوَجْهِهِ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يَفُوزُ بِالْأَعْوَاضِ وَالْأَقْسَامِ وَالْحُظُوظِ كُلِّهَا . فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهَا غَايَةَ طَلَبِهِ ، تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ فِي حُصُولِهَا . وَهُوَ مَحْمُودٌ مَشْكُورٌ مُقَرَّبٌ . وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَطْلُوبَةً لَنَقَصَتْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِهَا وَإِرَادَتِهَا عَنْ طَلَبِ الرَّبِّ تَعَالَى لِذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ .
فَهَذَا قَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهَا وَالْحَاصِلُ لَهُ مِنْهَا : نَزْرٌ يَسِيرٌ . وَالْعَارِفُ لَيْسَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا . وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كُلُّهَا . فَالزُّهْدُ فِيهَا لَا يُفِيتُكُهَا ، بَلْ هُوَ عَيْنُ حُصُولِهَا . وَالزُّهْدُ فِي اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُفِيتُكَهُ وَيُفِيتُكَ الْحُظُوظَ . وَإِذَا كَانَ لَكَ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ . أَحَدُهُمْ : يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى مَرْضَاتِكَ . وَالثَّانِي : يُرِيدُ مِنْكَ وَلَا يُرِيدُكَ ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى حُظُوظِهِ مِنْكَ . وَالثَّالِثُ : يُرِيدُكَ وَيُرِيدُ مِنْكَ . وَالرَّابِعُ : لَا يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ . بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْقَلْبِ بِبَعْضِ عَبِيدِكَ . فَلَهُ يُرِيدُ . وَمِنْهُ يُرِيدُ . فَإِنَّ آثَرَ الْعَبِيدِ عِنْدَكَ ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْكَ ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْكَ مَنْزِلَةً ، وَالْمَخْصُوصَ مِنْ إِكْرَامِكَ وَعَطَائِكَ بِمَا لَا يَنَالُهُ الْعَبِيدُ الثَّلَاثَةُ - هُوَ الْأَوَّلُ . هَكَذَا نَحْنُ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءً .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَا تَقِفْ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ .
فَيَعْنِي : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْكَ نَظَرٌ إِلَى السِّوَى عِنْدَ الشُّهُودِ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرِارًا .
وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ . فَإِنَّ الشُّهُودَ إِذَا صَحَّ مَحَا الرُّسُومَ ضَرُورَةً فِي نَظَرِ الشَّاهِدِ . فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ عَدَمَ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا . وَالشُّهُودُ الصَّحِيحُ مَاحٍ لَهَا بِالذَّاتِ . لَكِنَّ أَوَّلَهُ قَدْ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْكَسْبِ . وَنِهَايَتُهُ لَا تَقِفُ عَلَى كَسْبٍ .
قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْوَجَ عَدُوَّهُ إِلَى شَفَاعَةٍ ، وَلَمْ يَخْجَلْ مِنَ الْمَعْذِرَةِ إِلَيْهِ : لَمْ يَشَمَّ
[ ص: 333 ] رَائِحَةَ الْفُتُوَّةِ .
يَعْنِي أَنَّ الْعَدُوَّ مَتَّى عَلِمَ أَنَّكَ مُتَأَلِّمٌ مِنْ جِهَةِ مَا نَالَكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْكَ ، وَيُشَفِّعَ إِلَيْكَ شَافِعًا يُزِيلُ مَا فِي قَلْبِكَ مِنْهُ . فَالْفُتُوَّةُ كُلُّ الْفُتُوَّةِ : أَنْ لَا تُحْوِجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ ، بِأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ مِنْكَ عَتَبٌ وَلَا تَغَيُّرٌ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْكَ قَبْلَ مُعَادَاتِهِ . وَلَا تَطْوِيَ عَنْهُ بِشْرَكَ وَلَا بِرَّكَ . وَإِذَا لَمْ تَخْجَلْ أَنْتَ مِنْ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْكَ مَقَامَ الْمُعْتَذِرِ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِي الْفُتُوَّةِ نَصِيبٌ .
وَلَا تَسْتَعْظِمُ هَذَا الْخُلُقَ . فَإِنَّ لِلْفِتْيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ . وَلَا تَسْتَصْعِبُهُ . فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّطَّارِ وَالْعُشَرَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي حَالِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا فِي لِسَانِهَا نَصِيبٌ ، فَأَنْتَ أَيُّهَا الْعَارِفُ أَوْلَى بِهِ .
قَالَ : وَفِي عِلْمِ الْخُصُوصِ : مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ : لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا .
كَأَنَّهُ يَقُولُ : إِذَا لَمْ تُحْوِجْ عَدُوَّكَ إِلَى الْعُذْرِ وَالشَّفَاعَةِ . وَلَمْ تُكَلِّفْهُ طَلَبَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ عُذْرِهِ ، فَكَيْفَ تُحْوِجُ وَلِيَّكَ وَحَبِيبَكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ لَكَ الدَّلِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَلَا تُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ لَكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ ؟
وَهَلْ هَذَا إِلَّا خِلَافَ الْفُتُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؟
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَاكَ إِلَى دَارِهِ . فَقَلْتَ لِلرَّسُولِ : لَا آتِي مَعَكَ حَتَّى تُقِيمَ لِيَ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ مَنْ أَرْسَلَكَ ، وَأَنَّهُ مُطَاعٌ ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ . لَكُنْتَ فِي دَعْوَى الْفُتُوَّةِ زَنِيمًا . فَكَيْفَ بِمَنْ وَجُودُهُ ، وَوَحْدَانِيَّتُهُ ، وَقُدْرَتُهُ ، وَرُبُوبِيَّتُهُ ، وَإِلَهِيَّتُهُ - أَظْهَرُ مَنْ كُلِّ دَلِيلٍ تَطْلُبُهُ ؟ فَمَا مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ ، إِلَّا وَوَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ وَكَمَالُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ . فَإِقْرَارُ الْفِطَرِ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ خَالِقِ الْعَالَمِ : لَمْ يُوقِفْهَا عَلَيْهِ مُوقِفٌ .
وَلَمْ تَحْتَجْ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . فَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ : طَالِبُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ .