قال : وهو في هذا الباب : على ثلاث
nindex.php?page=treesubj&link=29411درجات . الدرجة الأولى : سرور ذوق . ذهب بثلاثة أحزان : حزن أورثه خوف الانقطاع . وحزن هاجمته ظلمة الجهل . وحزن بعثته وحشة التفرق .
السرور ضد الحزن . والحزن لا يجامعه : كان مذهبا له . ولما كان سببه : ذوق الشيء السار . فإنه كلما كان الذوق أتم : كان السرور به أكمل .
وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=29411السرور يذهب ثلاثة أحزان .
الحزن الأول : حزن أورثه خوف الانقطاع . وهذا حزن المتخلفين عن ركب المحبين ، ووفد المحبة ، فأهل الانقطاع هم المتخلفون عن صحبة هذا الركب وهذا
[ ص: 154 ] الوفد . وهم الذين
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=46كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فثبط عزائمهم وهممهم : أن تسير إليه وإلى جنته . وأمر قلوبهم أمرا كونيا قدريا : أن تقعد مع القاعدين المتخلفين عن السعي إلى محابه . فلو عاينت قلوبهم - حين أمرت بالقعود عن مرافقة الوفد ، وقد غمرتها الهموم ، وعقدت عليها سحائب البلاء ، فأحضرت كل حزن وغم ، وأمواج القلق والحسرات تتقاذف بها ، وقد غابت عنها المسرات . ونابت عنها الأحزان - لعلمت أن الأبرار في هذه الدار في نعيم . وأن المتخلفين عن رفقتهم في جحيم .
وهذا الحزن يذهب به ذوق طعم الإيمان . فيذيق الصديق طعم الوعد الذي وعد به على لسان الرسول . فلا يعقله ظن . ولا يقطعه أمل . ولا تعوقه أمنية - كما تقدم - فيباشر قلبه حقيقة قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=61أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=5ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223وقدموا لأنفسكم واتقوا الله nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223واعلموا أنكم ملاقوه nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223وبشر المؤمنين . وأمثال هذه الآيات .
قوله : وحزن هاجته ظلمة الجهل .
وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=29411الحزن الثاني : الذي يذهب سرور الذوق ، هو حزن ظلمة الجهل .
والجهل نوعان : جهل علم ومعرفة . وهو مراد الشيخ هاهنا ، وجهل عمل وغي . وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب ، وكما أن
nindex.php?page=treesubj&link=18467العلم يوجب نورا وأنسا . فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة . وقد سمى الله سبحانه وتعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة . وسمى ضده : ظلمة وموتا وضلالا . قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ ص: 155 ] وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=15قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا . فجعله روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح . ونورا لما يحصل به من الهدى والرشاد .
ومثل هذا النور في قلب المؤمن :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35كمشكاة فيها مصباح nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35المصباح في زجاجة nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35نور على نور nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35يهدي الله لنوره من يشاء ومثل حال من فقد هذا النور : بمن هو في
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=40ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
الحزن الثالث : حزن بعثته وحشة التفرق . وهو تفرق الهم والقلب عن الله عز وجل . ولهذا التفرق حزن ممض على فوات جمعية القلب على الله ولذاتها ونعيمها ، فلو فرضت لذات أهل الدنيا بأجمعها حاصلة لرجل لم يكن لها نسبة إلى لذة جمعية قلبه على الله ، وفرحه به ، وأنسه بقربه ، وشوقه إلى لقائه . وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه . فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك . ولله در القائل :
أيا صاحبي أما ترى نارهم فقال : تريني ما لا أرى سقاك الغرام ولم يسقني
فأبصرت ما لم أكن مبصرا
فلو لم يكن في التفرق المذكور إلا ألم الوحشة ، ونكد التشتت ، وغبار الشعث
[ ص: 156 ] لكفى به عقوبة ، فكيف ؟ وأقل عقوبته : أن يبتلى بصحبة المنقطعين ومعاشرتهم وخدمتهم . فتصير أوقاته - التي هي مادة حياته - ولا قيمة لها ، مستغرقة في قضاء حوائجهم ، ونيل أغراضهم . وهذه عقوبة قلب ذاق حلاوة الإقبال على الله والجمعية عليه والأنس به . ثم آثر على ذلك سواه . ورضي بطريقة بني جنسه ، وما هم عليه . ومن له أدنى حياة في قلبه ونور فإنه يستغيث قلبه من وحشة هذا التفرق . كما تستغيث الحامل عند ولادتها .
ففي القلب شعث ، لا يلمه إلا الإقبال على الله . وفيه وحشة ، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته .
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته .
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه ، والفرار منه إليه .
وفيه نيران حسرات : لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه .
وفيه طلب شديد : لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه .
وفيه فاقة : لا يسدها إلا محبته ، والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص له . ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا .
فالتفرق يوقع وحشة الحجاب . وألمه أشد من ألم العذاب . قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم . فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم .
و " الذوق " الذي يذهب وحشة هذا التفرق : هو الذوق الذي ذكره الشيخ في قوله : ذوق الإرادة طعم الأنس . فلا يعلق به شاغل . ولا يفسده عارض . ولا تكدره تفرقة .
قَالَ : وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ : عَلَى ثَلَاثِ
nindex.php?page=treesubj&link=29411دَرَجَاتٍ . الدَّرَجَةُ الْأُولَى : سُرُورُ ذَوْقٍ . ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَحْزَانٍ : حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ . وَحُزْنٌ هَاجَمَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ . وَحُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ .
السُّرُورُ ضِدُّ الْحُزْنِ . وَالْحُزْنُ لَا يُجَامِعُهُ : كَانَ مُذْهِبًا لَهُ . وَلَمَّا كَانَ سَبَبُهُ : ذَوْقَ الشَّيْءِ السَّارِّ . فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الذَّوْقُ أَتَمَّ : كَانَ السُّرُورُ بِهِ أَكْمَلَ .
وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29411السُّرُورُ يُذْهِبُ ثَلَاثَةَ أَحْزَانٍ .
الْحُزْنُ الْأَوَّلُ : حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ . وَهَذَا حُزْنُ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَكْبِ الْمُحِبِّينَ ، وَوَفْدِ الْمَحَبَّةِ ، فَأَهْلُ الِانْقِطَاعِ هُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ صُحْبَةِ هَذَا الرَّكْبِ وَهَذَا
[ ص: 154 ] الْوَفْدِ . وَهُمُ الَّذِينَ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=46كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ فَثَبَّطَ عَزَائِمَهُمْ وَهِمَمَهُمْ : أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ . وَأَمَرَ قُلُوبَهُمْ أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا : أَنْ تَقْعُدَ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَحَابِّهِ . فَلَوْ عَايَنْتَ قُلُوبَهُمْ - حِينَ أُمِرَتْ بِالْقُعُودِ عَنْ مُرَافَقَةِ الْوَفْدِ ، وَقَدْ غَمَرَتْهَا الْهُمُومُ ، وَعَقَدَتْ عَلَيْهَا سَحَائِبُ الْبَلَاءِ ، فَأَحْضَرَتْ كُلَّ حُزْنٍ وَغَمٍّ ، وَأَمْوَاجُ الْقَلَقِ وَالْحَسَرَاتِ تَتَقَاذَفُ بِهَا ، وَقَدْ غَابَتْ عَنْهَا الْمَسَرَّاتُ . وَنَابَتْ عَنْهَا الْأَحْزَانُ - لَعَلِمْتَ أَنَّ الْأَبْرَارَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي نَعِيمٍ . وَأَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رُفْقَتِهِمْ فِي جَحِيمٍ .
وَهَذَا الْحُزْنُ يَذْهَبُ بِهِ ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ . فَيُذِيقُ الصِّدِّيقَ طَعْمَ الْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ . فَلَا يَعْقِلُهُ ظَنٌّ . وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ . وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَيُبَاشِرُ قَلْبُهُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=61أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=5يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=223وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ : وَحُزْنٌ هَاجَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ .
وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29411الْحُزْنُ الثَّانِي : الَّذِي يُذْهِبُ سُرُورَ الذَّوْقِ ، هُوَ حَزْنُ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ .
وَالْجَهْلُ نَوْعَانِ : جَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ . وَهُوَ مُرَادُ الشَّيْخِ هَاهُنَا ، وَجَهْلُ عَمَلٍ وَغَيٍّ . وَكِلَاهُمَا لَهُ ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ فِي الْقَلْبِ ، وَكَمَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18467الْعِلْمَ يُوجِبُ نُورًا وَأُنْسًا . فَضِدُّهُ يُوجِبُ ظُلْمَةً وَيُوقِعُ وَحْشَةً . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ نُورًا وَهُدًى وَحَيَاةً . وَسَمَّى ضِدَّهُ : ظُلْمَةً وَمَوْتًا وَضَلَالًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=257وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=122أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [ ص: 155 ] وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=15قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا . فَجَعَلَهُ رُوحًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ . وَنُورًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ .
وَمَثَّلَ هَذَا النُّورَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35نُورٌ عَلَى نُورٍ nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَثَّلَ حَالَ مَنْ فَقَدَ هَذَا النُّورِ : بِمَنْ هُوَ فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=40ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ .
الْحُزْنُ الثَّالِثُ : حُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ . وَهُوَ تَفَرُّقُ الْهَمِّ وَالْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَلِهَذَا التَّفَرُّقِ حُزْنٌ مُمِضٌّ عَلَى فَوَاتِ جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَلَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا ، فَلَوْ فُرِضَتْ لَذَّاتُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا حَاصِلَةً لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِسْبَةٌ إِلَى لَذَّةِ جَمْعِيَّةِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ ، وَفَرَحِهِ بِهِ ، وَأُنْسِهِ بِقُرْبِهِ ، وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ . وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ ذَاقَهُ . فَإِنَّمَا يُصَدِّقُكَ مَنْ أَشْرَقَ فِيهِ مَا أَشْرَقَ فِيكَ . وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلُ :
أَيَا صَاحِبِي أَمَا تَرَى نَارَهُمْ فَقَالَ : تُرِينِي مَا لَا أَرَى سَقَاكَ الْغَرَامُ وَلَمْ يَسْقِنِي
فَأَبْصَرْتَ مَا لَمْ أَكُنْ مُبْصِرًا
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَلَمُ الْوَحْشَةِ ، وَنَكَدُ التَّشَتُّتِ ، وَغُبَارُ الشَّعَثِ
[ ص: 156 ] لَكَفَى بِهِ عُقُوبَةً ، فَكَيْفَ ؟ وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ : أَنْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْمُنْقَطِعِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ . فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ - الَّتِي هِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ - وَلَا قِيمَةَ لَهَا ، مُسْتَغْرَقَةً فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ ، وَنَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ . وَهَذِهِ عُقُوبَةُ قَلْبٍ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ . ثُمَّ آثَرَ عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ . وَرَضِيَ بِطَرِيقَةِ بَنِي جِنْسِهِ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ . وَمَنْ لَهُ أَدْنَى حَيَاةٍ فِي قَلْبِهِ وَنُورٍ فَإِنَّهُ يَسْتَغِيثُ قَلْبُهُ مِنْ وَحْشَةِ هَذَا التَّفَرُّقِ . كَمَا تَسْتَغِيثُ الْحَامِلُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا .
فَفِي الْقَلْبِ شَعَثٌ ، لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ . وَفِيهِ وَحْشَةٌ ، لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ .
وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ .
وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ ، وَالْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ .
وَفِيهِ نِيرَانُ حَسَرَاتٍ : لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ لِقَائِهِ .
وَفِيهِ طَلَبٌ شَدِيدٌ : لَا يَقِفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ مَطْلُوبَهُ .
وَفِيهِ فَاقَةٌ : لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّتُهُ ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ ، وَدَوَامُ ذِكْرِهِ ، وَصِدْقُ الْإِخْلَاصِ لَهُ . وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ تَسُدَّ تِلْكَ الْفَاقَةَ مِنْهُ أَبَدًا .
فَالتَّفَرُّقُ يُوقِعُ وَحْشَةَ الْحِجَابِ . وَأَلَمُهُ أَشَدُّ مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ . فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الْحِجَابِ وَعَذَابُ الْجَحِيمِ .
وَ " الذَّوْقُ " الَّذِي يُذْهِبُ وَحْشَةَ هَذَا التَّفَرُّقِ : هُوَ الذَّوْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ : ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ . فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ . وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ . وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ .