فصل
قال : ، تقطع حبال الشواهد ، وتلبس نعوت القدس ، وتخرس ألسنة الإشارات . الدرجة الثانية : مشاهدة معاينة
إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها ، لأن تلك الدرجة مشاهدة برق عن العلم النظري بالتوحيد ، وتمكنت في وجود التوحيد ، حتى صار صاحبها يرى الأسباب كلها عن واحد متقدم عليها ، لا أول لوجوده حالا وذوقا ، وأناخ بفناء الجمع ليتبوأه منزلا لتوحيده ، ولكنه بعد لم يكمل استغراقه عن شهود رسمها بالكلية ، فشواهد الرسوم بعد معه ، وصاحب هذه الدرجة : قد انقطعت عنه حبال الشواهد ، وتمكن في مقام المشاهدة ، وتطهر من نعوت النفس ولبس نعوت القدس ، فتطهر من الالتفات إلى غير مشهوده ، فحرس لذلك لسانه عن الإشارة إلى ما هو فيه ، فهذه المشاهدة عنده فوق مشاهدة المعرفة ؛ لأن تلك من لوائح نور الوجود ، وهذه مشاهدة الوجود نفسه ، لا بوارق نوره ، فهي أعلى ؛ لأنها مشاهدة عيان ، والعيان والمعاينة : أن تقع العين في العين .
وقد عرفت أن هذا مستحيل في الدنيا ، ومن جوزه فقد أخطأ أقبح الخطأ ، وتعدى مقام الرسل ، وإنما غاية ما يصل إليه العارف : مزيد إيمان ويقين ، بحيث يعبد الله كأنه يراه ؛ لقوة يقينه وإيمانه بوجوده وأسمائه وصفاته ، وأن الأنوار واللوامع والبوارق إنما هي أنوار الإيمان والطاعات من الذكر ، وقراءة القرآن ونحوها ، أو هي أنوار استغراقه في مطالعة الأسماء والصفات وإثباتها والإيمان بها ، بحيث يبقى [ ص: 226 ] كالمعاين لها ، فيشرق على قلبه نور المعرفة ، فيظنه نور الذات والصفات .
وتقدم بيان السبب الموقع لهم في ذلك ، وأنهم لا يمكن رجوعهم في ذلك إلى المحجوبين الذين غلظ في هذا الباب حجابهم ، وكثفت عن إدراكه أرواحهم ، وقصرت عنه علومهم ومعارفهم ، ولم يكادوا يظفرون بذائق صحيح الذوق يفصل لهم أحكام أذواقهم ومشاهدتهم ، وينزلها منازلها ، ويبين أسبابها وعللها ، فوجود هذا أعز شيء ، والقوم لهم طلب شديد وهمم عالية ، ومطلبهم وهممهم عندهم فوق مطالب الناس وهممهم ، فتشهد أرواحهم مقامات المنكر عليهم وسفولها ، واستغراقه في حظوظه وأحكام نفسه وطبيعته ، فلا تسمح نفوسهم بقبول قوله ، والرجوع إليه ، فلو وجدوا عارفا ذا قرآن وإيمان ينادي القرآن والإيمان على معرفته ، وتدل معرفته على مقتضى الإيمان والقرآن ، محكما للوحي على الذوق ، مستخرجا أحكام الذوق من الوحي ، ليس فظا ولا غليظا ، ولا مدعيا ولا محجوبا بالوسائل عن الغايات ، إشارته دون مقامه ، ومقامه فوق إشارته ، إن أشار أشار بالله مستشهدا بشواهد الله ، وإن سكت سكت بالله ، عاكفا بسره وقلبه على الله فلو وجدوا مثل هذا لكان الصادقون أسرع إليه من النار في يابس الحطب والوقود ، والله المستعان .
قوله : " وقطع حبال الشواهد " شبه الشواهد بالحبال التي تجذب العبد إلى مطلوبه ، وهذا إنما يكون مع الغيبة عنه ، فإذا صار الأمر إلى العيان : انقطعت حينئذ حبال الشواهد بحكم المعاينة .
قوله : " وتلبس نعوت القدس " القدس : هو النزاهة والطهارة ، و " نعوت القدس " هي صفاته ، فيلبسه الحق سبحانه من تلك النعوت ما يليق به ، واستعار لذلك لفظة اللبس ؛ فإن تلك الصفات خلع ، وخلع الحق سبحانه وتعالى يلبسها من يشاء من عباده .
وهذا موضع يتوارد عليه الموحدون والملحدون ، فالموحد يعتقد : أن الذي ألبسه الله إياه هو صفات جمل الله بها ظاهره وباطنه ، وهي صفات مخلوقة ألبست عبدا مخلوقا ، فكسا عبده حلة من حلل فضله وعطائه .
والملحد يقول : كساه نفس صفاته ، وخلع عليه خلعة من صفات ذاته ، حتى صار شبيها به ، بل هو هو ، ويقولون : الوصول هو التشبه بالإله على قدر الطاقة ، وبعضهم يلطف هذا المعنى ، ويقول : بل يتخلق بأخلاق الرب ، ورووا في ذلك أثرا [ ص: 227 ] باطلا " تخلقوا بأخلاق الله " .
وليس هاهنا غير التعبد بالصفات الجميلة ، والأخلاق الفاضلة التي يحبها الله ، ويخلقها لمن يشاء من عباده ، فالعبد مخلوق ، وخلعته مخلوقة ، وصفاته مخلوقة ، والله سبحانه وتعالى بائن بذاته وصفاته عن خلقه ، لا يمازجهم ولا يمازجونه ، ولا يحل فيهم ولا يحلون فيه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .