فصل
قال : وهي على ثلاث . الدرجة الأولى : درجات تجري فوق حدود العلم ، في لوائح نور الوجود ، منيخة بفناء الجمع . مشاهدة معرفة ،
هذا بناء على أصول القوم ، وأن المعرفة فوق العلم ، فإن العلم عندهم هو إدراك المعلوم ، ولو ببعض صفاته ولوازمه ، والمعرفة عندهم إحاطة بعين الشيء على ما هو به كما حدها الشيخ ولا ريب أنها بهذا الاعتبار فوق العلم ، لكن على هذا الحد لا يتصور أن يعرف الله أحد من خلقه ألبتة ، وسيأتي الكلام على هذا الحد في موضعه إن شاء الله تعالى ، وليست المعرفة عند القوم مشروطة بما ذكروا ، وسنذكر كلامهم إن شاء الله .
وقد ذكر بعضهم : أن أعمال الأبرار بالعلم ، وأعمال المقربين بالمعرفة .
وهذا كلام يصح من وجه ، ويبطل من وجه ، فالأبرار والمقربون عاملون بالعلم ، واقفون مع أحكامه ، وإن كانت معرفة المقربين أكمل من معرفة الأبرار ، فكلاهما أهل علم ومعرفة ، فلا يسلب الأبرار المعرفة ، ولا يستغني المقربون عن العلم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل فجعلهم عارفين بالله قبل إتيانهم بفرض الصلاة والزكاة ، بل جعلهم في أول أوقات دخولهم في الإسلام عارفين بالله ، ولا ريب أن هذه المعرفة ليست كمعرفة إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ، فإذا هم عرفوا الله ، فأخبرهم : أن الله قد فرض [ ص: 224 ] عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة المهاجرين والأنصار ، فالناس متفاوتون في درجات المعرفة تفاوتا بعيدا .
قوله : " في لوائح نور الوجود " يعني : أن شواهد المعرفة بوارق تلوح من نور الوجود ، والوجود عند الشيخ ثلاث مراتب : وجود علم ، ووجود عين ، ووجود مقام ، كما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى .
وهذه اللوائح التي أشار إليها : تلوح في المراتب الثلاث ، وقد ذكروا عن الجنيد ، أنه قال : علم التوحيد مباين لوجوده ، ووجوده مباين لعلمه .
ومعنى ذلك : أن العبد قد يصح له العلم بانفراد الحق في ذاته وصفاته وأفعاله علما جازما ، لا يشك ولا يرتاب فيه ، ولكن إذا اختلفت عليه الأسباب ، وتقاذفت به أمواجها لم يثبت قلبه في أوائل الصدمات ، ولم يبادر إذ ذاك إلى رؤية الأسباب كلها من الأول الذي دلت على وحدانيته وأوليته ؛ البراهين القطعية والمشاهدة الإيمانية ، فهذا عالم بالتوحيد غير واجد لمقامه ، ولا متصف بحال أكسبه إياها التوحيد ، فإذا وجد قلبه وقت اختلاف الأحوال وتباين الأسباب واثقا بربه ، مقبلا عليه ، مستغرقا في شهود وحدانيته في ربوبيته وإلهيته ، فإنه وحده هو المنفرد بتدبير عباده فقد وجد مقام التوحيد حاله .
وأهل هذا المقام متفاوتون في شهوده تفاوتا عظيما : من مدرك لما هو فيه متنعم متلذذ في وقت دون وقت ، ومن غالب عليه هذه الحال ، ومن مستغرق غائب عن حظه ولذته بما هو فيه من وجوده ، فنور الوجود قد غشي مشاهدته لحاله ، ولم يصل إلى مقام الجمع ، بل قد أناخ بفنائه ، والوجود عنده هو حضرة الجمع ، ويسمى حضرة الوجود .
[ ص: 225 ] قوله : " منيخة بفناء الجمع " يعني : قد شارفت مشاهدته لحاله منزل الجمع ، وأناخت به ، وتهيأ لدخوله ، وهذه استعارة ، فكأنه مثل المشاهد بالمسافر ، ومثل مشاهدته بناقته التي يسافر عليها ، فإنها الحاملة له ، وشبه حضرة الجمع بالمنزل والدار ، وقد أناخ المسافر بفنائها ، وهذا إشارة منه إلى إشرافه عليها ، وأن نور الوجود لا يلوح إلا منها .