ألا ترى أن الله تعالى ذكر في الإبل النحر وفي البقر والغنم الذبح فقال سبحانه وتعالى { فصل لربك وانحر } قيل في التأويل أي : انحر الجزور ، وقال الله عز شأنه { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وقال تعالى { وفديناه بذبح عظيم } والذبح بمعنى المذبوح كالطحن بمعنى المطحون وهو الكبش الذي فدي به سيدنا إسماعيل أو سيدنا إسحاق - صلوات الله عليهما - على اختلاف أصل القصة في ذلك وكذا { النبي عليه الصلاة والسلام نحر الإبل وذبح البقر والغنم } فدل أن ذلك هو السنة ، وذكر رحمه الله في الأصل وقال : بلغنا أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم كانوا ينحرون الإبل قياما معقولة اليد اليسرى فدل ذلك على أن النحر في الإبل هو السنة ; لأن الأصل في الذكاة إنما هو الأسهل على الحيوان وما فيه نوع راحة له فيه فهو أفضل لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : { محمد } . إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته
والأسهل في الإبل النحر لخلو لبتها عن اللحم واجتماع اللحم فيما سواه من خلفها ، والبقر والغنم جميع حلقها لا يختلف .
فإن قيل : أليس أنه روي عن رضي الله عنه أنه قال { جابر } ؟ أي : ونحرنا البقرة عن سبعة ; لأنه معطوف على الأول فكان خبر الأول خبرا للثاني كقولنا : جاءني زيد وعمرو فالجواب أن الذبح مضمر فيه ومعناه وذبحنا البقرة على عادة العرب في الشيء إذا عطف على غيره وخبر المعطوف عليه لا يحتمل الوجود في المعطوف أو لا يوجد عادة أن يضمر المتعارف المعتاد كما قال الشاعر : : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
ولقيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
أي متقلدا سيفا ومعتقلا رمحا ، وقال آخر :علفتها تبنا وماء باردا
أي : علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا ; لأن الرمح لا يحتمل التقلد أو لا يتقلد عادة ، والماء لا يعلف بل يسقى كذا ههنا الذبح في البقر هو المعتاد فيضمر فيه فصار كأنه قال : نحرنا البدنة وذبحنا البقرة ، وهذا الذي ذكرنا قول عامة العلماء رضي الله تعالى عنهم .وقال رحمه الله : إذا ذبح البدنة لا تحل ; لأن الله تبارك وتعالى أمر في البدنة بالنحر بقوله عز شأنه { مالك فصل لربك وانحر } فإذا ذبح فقد ترك المأمور به فلا يحل .
ولنا ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { } ، وبه تبين أن الأمر بالنحر في البدنة ليس لعينه بل لإنهار الدم وإفراء الأوداج وقد وجد ذلك ولا بأس في الحلق كله أسفله أو أوسطه أو أعلاه ; لقوله عليه الصلاة والسلام { : ما أنهر الدم وفرى الأوداج فكل } ، وقوله عليه الصلاة والسلام { الذكاة ما بين اللبة واللحيين } من غير فصل ; ولأن المقصود إخراج الدم المسفوح وتطييب اللحم ، وذلك يحصل بقطع الأوداج في الحلق كله . الذكاة في الحلق واللبة
ثم الأوداج أربعة : الحلقوم ، والمريء ، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء ، فإذا فرى ذلك كله فقد أتى بالذكاة بكمالها وسننها وإن فرى البعض دون البعض فعند رضي الله عنه إذا قطع أكثر الأوداج وهو ثلاثة منها أي ثلاثة كانت وترك واحدا يحل ، وقال أبي حنيفة رحمه الله : لا يحل حتى يقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين ، وقال أبو يوسف رحمه الله : لا يحل حتى يقطع من كل واحد من الأربعة أكثره ، وقال محمد رحمه الله : إذا قطع الحلقوم والمريء حل إذا استوعب قطعهما . الشافعي
( وجه ) قول رضي الله عنه أن الذبح إزالة الحياة والحياة لا تبقى بعد قطع الحلقوم والمريء عادة وقد تبقى بعد قطع الودجين إذ هما عرقان كسائر العروق ، والحياة تبقى بعد قطع عرقين من سائر العروق . الشافعي
( ولنا ) أن المقصود من الذبح إزالة المحرم وهو الدم المسفوح ولا يحصل إلا بقطع الودج .
( وجه ) قول عليه الرحمة أنه إذا قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة فقد حصل المقصود بالذبح وهو خروج الدم ; لأنه يخرج ما يخرج [ ص: 42 ] بقطع الكل . محمد
( وجه ) قول إن كل واحد من العروق يقصد بقطعه غير ما يقصد به الآخر ; لأن الحلقوم مجرى النفس ، والمريء مجرى الطعام ، والودجين مجرى الدم فإذا قطع أحد الودجين حصل بقطعه المقصود منهما وإذا ترك الحلقوم لم يحصل بقطع ما سواه المقصود منه ، ولذلك اختلفا أبي يوسف - عليه الرحمة - أنه قطع الأكثر من العروق الأربعة وللأكثر حكم الكل فيما بني على التوسعة في أصول الشرع ، والذكاة بنيت على التوسعة حيث يكتفى فيها بالبعض بلا خلاف بين الفقهاء وإنما اختلفوا في الكيفية فيقام الأكثر فيها مقام الجميع . ولأبي حنيفة