( ومنها ) الرضا لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } عقيب قوله - عز اسمه - { : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وقال عليه الصلاة والسلام : { } فلا يصح لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه ; لعدم الرضا ، فأما إذا بيع المكره إذا باع مكرها وسلم مكرها فالبيع صحيح على ما نذكره في كتاب الإكراه ; ولا يصح باع مكرها وسلم طائعا ; لأنه متكلم بكلام البيع لا على إدارة حقيقته فلم يوجد الرضا بالبيع ، فلا يصح بخلاف بيع الهازل أنه واقع ; لأن الفائت بالإكراه ليس إلا الرضا ، والرضا ليس بشرط لوقوع الطلاق ، بخلاف البيع على أن الهزل في باب الطلاق ملحق بالجد شرعا قال صلى الله عليه وسلم : { طلاق الهازل } ألحق الهازل بالجاد فيه . ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق ، والنكاح والعتاق
ومثل هذا لم يرد في البيع ، وعلى هذا يخرج الذي كان يفعله أهل الجاهلية : كان الرجلان يتساومان السلعة فإذا أراد أحدهما إلزام البيع نبذ السلعة إلى المشتري ; فيلزم البيع رضي المشتري أم سخط ، أو لمسها المشتري ، أو وضع عليها حصاة فجاء الإسلام فشرط الرضا وأبطل ذلك كله ، وعلى هذا يخرج بيع المنابذة ، والملامسة ، والحصاة وهي ما لجأ الإنسان إليه بغير اختياره اختيار الإيثار وجملة الكلام فيه : أن التلجئة في الأصل لا تخلو إما أن تكون في نفس البيع ، وإما أن تكون في الثمن فإن كانت في نفس البيع ، فإما أن تكون في إنشاء البيع ، وإما أن تكون في الإقرار به ، فإن كانت في إنشاء البيع بأن تواضعوا في السر لأمر ألجأهم إليه على أن يظهر البيع ، ولا بيع بينهما حقيقة وإنما هو رياء وسمعة نحو أن يخاف رجل السلطان فيقول الرجل : إني أظهر أني بعت منك داري وليس ببيع في الحقيقة وإنما هو تلجئة فتبايعا ; فالبيع باطل في ظاهر الرواية عن بيع التلجئة ، وهو قول أبي حنيفة ، أبي يوسف ; لأنهما تكلما بصيغة البيع لا على قصد الحقيقة ، وهو تفسير الهزل ، والهزل يمنع جواز البيع ; لأنه يعدم الرضا بمباشرة السبب فلم يكن هذا بيعا منعقدا في الحكم . ومحمد
وروى عن أبو يوسف أن البيع جائز ; لأن ما شرطاه في السر لم يذكراه في العقد ، وإنما عقدا عقدا صحيحا بشرائطه فلا يؤثر فيه ما تقدم من الشرط ، كما إذا اتفقا على أن يشترطا شرطا فاسدا عند البيع ، ثم باعا من غير شرط ، والجواب أن الحكم ببطلان هذا البيع لمكان الضرورة ، فلو اعتبرنا وجود الشرط عند البيع لا تندفع الضرورة ، ولو أجاز أحدهما دون الآخر لم يجز ، وإن أجازاه جاز كذا ذكر أبي حنيفة ; لأن الشرط السابق وهو : المواضعة منعت انعقاد العقد في حق الحكم بمنزلة شرط خيار المتبايعين ، فلا يصح إلا بتراضيهما ، ولا يملكه المشتري بالقبض حتى لو كان المشترى عبدا فقبضه وأعتقه لا ينفذ إعتاقه ، بخلاف المكره على البيع والتسليم إذا باع وسلم فأعتقه المشتري أنه ينفذ إعتاقه ; لأن بيع المكره انعقد سببا للحكم ; لوجود الرضا بمباشرة السبب عقلا ; لما فيه من صيانة نفسه عن الهلاك فانعقد السبب إلا أنه فسد ; لانعدام [ ص: 177 ] الرضا طبعا فتأخر الملك فيه إلى وقت القبض ، أما ههنا فلم يوجد الرضا بمباشرة السبب في الجانبين أصلا ; فلم ينعقد السبب في حق الحكم فتوقف على أحدهما فأشبه البيع بشرط خيار المتبايعين ، هذا إذا كانت التلجئة في إنشاء البيع ، فأما إذا كانت في الإقرار به فإن اتفقا على أن يقرا ببيع لم يكن فأقرا بذلك ثم اتفقا على أنه لم يكن فالبيع باطل حتى لا يجوز بإجازتهما ; لأن الإقرار إخبار ، وصحة الإخبار بثبوت المخبر به حال وجود الإخبار ، فإن كان ثابتا كان الإخبار صدقا وإلا فيكون كذبا ، والمخبر به ههنا وهو البيع ليس بثابت فلا يحتمل الإجازة ; لأنها تلحق الموجود لا المعدوم ، هذا كله إذا كانت التلجئة في نفس البيع إنشاء كان ، أو إقرارا . محمد
فأما إذا كانت في الثمن فهذا أيضا لا يخلو من أحد وجهين : إما إن كانت في قدر الثمن ، وإما إن كانت في جنسه فإن كانت في قدره بأن فإن لم يقولا عند المواضعة ألف منهما رياء وسمعة فالثمن ما تعاقدا عليه ; لأن الثمن اسم للمذكور عند العقد ، والمذكور عند العقد ألفان ، فإن لم يذكرا أن أحدهما رياء وسمعة صحت تسمية الألفين ، وإن قالا عند المواضعة ألف منهما رياء وسمعة فالثمن ثمن السر ، والزيادة باطلة في ظاهر الرواية عند تواضعا في السر والباطن على أن يكون الثمن ألفا ويتبايعان في الظاهر بألفين ، وهو قول أبي حنيفة أبي يوسف . ومحمد
وروي عن أن الثمن ثمن العلانية ، وجه هذه الرواية : أن الثمن هو المذكور في العقد ، والألفان مذكوران في العقد وما ذكرا في المواضعة لم يذكراه في العقد فلا يعتبر . أبي يوسف
( وجه ) ظاهر الرواية : أن ما تواضعا عليه في السر هو ما تعاقدا عليه في العلانية إلا أنهما زادا عليه ألفا أخرى ، والمواضعة السابقة أبطلت الزيادة ; لأنهما في هزلانها حيث لم يقصداها فلم يصح ذكر الزيادة في البيع ; فيبقى البيع بما تواضعا عليه وهو الألف ، وإن كانت في جنسه بأن اتفقا في السر على أن الثمن ألف درهم لكنهما يظهرا أن البيع بمائة دينار ، فإن لم يقولا في المواضعة : إن ثمن العلانية رياء وسمعة فالثمن ما تعاقدا عليه ; لما قلنا ، وإن قالا ذلك فالقياس : أن يبطل العقد ، وفي الاستحسان يصح بمائة دينار .
( وجه ) القياس : أن ثمن السر لم يذكراه في العقد ، وثمن العلانية لم يقصداه فقد هزلا به فسقط ، وبقي بيعا بلا ثمن فلا يصح .
( وجه ) الاستحسان : أنهما لم يقصدا بيعا باطلا ، بل بيعا صحيحا فيجب حمله على الصحة ما أمكن ، ولا يمكن حمله على الصحة إلا بثمن العلانية فكأنهما انصرفا عما شرطاه في الباطن ; فتعلق الحكم بالظاهر كما لو اتفقا على أن يبيعاه بيع تلجئة فتواهبا بخلاف الألف ، والألفين ; لأن الثمن المذكور المشروط في السر مذكور في العقد ، وزيادة فتعلق العقد به هذا إذا تواضعا في السر ، ولم يتعاقدا في السر فأما إذا ، فإن لم يقولا : إن العقد الثاني رياء ، وسمعة فالعقد الثاني يرفع العقد الأول ، والثمن هو المذكور في العقد الثاني ; لأن البيع يحتمل الفسخ والإقالة فشروعهما في العقد الثاني إبطال للأول فبطل الأول ، وانعقد الثاني بما سمي عنده ، وإن قالا : رياء ، وسمعة فإن كان الثمن من جنس آخر فالعقد هو العقد الأول ; لأنهما لم يذكرا الرياء ، والسمعة فقد أبطلا المسمى في العقد الثاني فلم يصح العقد الثاني فبقي العقد الأول ، وإن كان من جنس الأول فالعقد هو العقد الثاني ; لأن البيع يحتمل الفسخ فكان العقد هو العقد الثاني ، لكن بالثمن الأول والزيادة باطلة ; لأنهما أبطلاها حيث هزلا بها هذا إذا تعاقدا في السر بثمن ثم تواضعا على أن يظهرا العقد بأكثر منه أو بجنس آخر ، فأما إذا تواضعا ، واتفقا في التلجئة في البيع فتبايعا وهما متفقان على ما تواضعا فالقول قول منكر التلجئة ; لأن الظاهر شاهد له فكان القول قوله مع يمينه على ما يدعيه صاحبه من التلجئة إذا طلب الثمن ، وإن أقام المدعي البينة على التلجئة تقبل بينته ; لأنه أثبت الشرط بالبينة فتقبل بينته كما لو أثبت الخيار بالبينة ، ثم هذا التفريع على ظاهر الرواية عن اختلفا فادعى أحدهما التلجئة ، وأنكر الآخر ، وزعم أن البيع بيع رغبة رحمه الله ; لأنه يعتبر المواضعة السابقة ، فأما على رواية أبي حنيفة عنه فلا يجيء هذا التفريع ; لأنه يعتبر العقد الظاهر فلا يلتفت إلى هذه الدعوى ; لأنها - وإن صحت - لا تؤثر في البيع الظاهر ، وذكر أبي يوسف القاضي في شرحه مختصر الخلاف بين الطحاوي ، وصاحبيه فقال على قول أبي حنيفة : القول قول من يدعي جواز البيع ، وعلى قولهما القول قول من يدعي التلجئة ، والعقد فاسد ، ولو اتفقا على التلجئة ثم قالا عند البيع : كل شرط كان بيننا فهو باطل تبطل التلجئة ، ويجوز البيع ; لأنه شرط فاسد زائد فاحتمل السقوط بالإسقاط ، ومتى سقط صار العقد جائزا ، إلا إذا اتفقا عند المواضعة ، وقالا : إن ما نقوله عند البيع أن [ ص: 178 ] كل شرط بيننا فهو باطل فذلك القول منا باطل ، فإذا قالا ذلك لا يجوز العقد ; لأنهما اتفقا على أن ما يبطلانه من الشرط عند العقد باطل إلا إذا حكيا في العلانية ما قالا في السر فقالا : إنا شرطنا كذا ، وكذا ، وقد أبطلنا ذلك ثم تبايعا فيجوز البيع ، ثم كما لا يجوز بيع التلجئة لا يجوز الإقرار بالتلجئة بأن يقول لآخر : إني أقر لك في العلانية بمالي ، أو بداري ، وتواضعا على فساد الإقرار لا يصح إقراره حتى لا يملكه المقر له ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم . أبي حنيفة