وبيان هذا الأصل في مسائل : إذا فإن لم يعلما كيلهما ، أو علم أحدهما دون الآخر ، أو علما كيل أحدهما دون الآخر لا يجوز لما قلنا ، وإن علم استواؤهما في الكيل ، فإن علم في المجلس جاز البيع ; لأن المجلس وإن طال فله حكم حالة العقد فكأنه عند العقد ، وإن علم بعد الافتراق لم يجز وقال تبايعا حنطة بحنطة مجازفة : يجوز ، علم قبل الافتراق أو بعده . زفر
( وجه ) قوله أن الحاجة إلى الكيل عند العقد لتحقق المساواة المشروطة ، وقد تبين أنها كانت ثابتة عنده .
( ولنا ) أن علم المتعاقدين بالمساواة عند العقد شرط الصحة ، ولم يوجد والدليل على أن العلم عند العقد شرط الصحة - أن الشرع ألزم رعاية المماثلة عند البيع بقوله عليه الصلاة والسلام : { } ، أي : بيعوا الحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، أمر المتبايعين بالبيع بصفة المماثلة ، فلا بد وأن تكون المماثلة معلومة لهما عند البيع لتمكنهما من رعاية هذا الشرط وكذا لو كان الحنطة بالحنطة مثلا بمثل لا يجوز ; لأن القسمة فيها معنى المبادلة ، فيشبه البيع ، ولا يجوز البيع فيها مجازفة فكذا القسمة . بين رجلين حنطة فاقتسماها مجازفة
ولو لم يجز ; لأن الحنطة مكيلة ، والتساوي في الكيل شرط جواز البيع في المكيلات ، ولا تعلم المساواة بينهما في الكيل ، فكان بيع الحنطة بالحنطة مجازفة وروي عن تبايعا حنطة بحنطة ، [ ص: 194 ] وزنا بوزن متساويا في الوزن رحمه الله أنه إذا غلب استعمال الوزن فيها تصير وزنية ، ويعتبر التساوي فيها بالوزن ، وإن كانت في الأصل كيلية وعلى هذا تخرج المزابنة والمحاقلة أنهما لا يجوزان ; لأن المزابنة بيع التمر على رءوس النخل بمثل كيله من التمر خرصا لا يدرى أيهما أكثر ، والزبيب بالعنب لا يدرى أيهما أكثر والمحاقلة بيع الحب في السنبل بمثل كيله من الحنطة خرصا لا يدرى أيهما أكثر . أبي يوسف
فكان هذا بيع مال الربا مجازفة ; لأنه لا يعرف المساواة بينهما في الكيل ، وقد روي عن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبي سعيد الخدري } ، وفسر نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة رحمه الله المزابنة والمحاقلة في الموطإ بما قلنا ، وهو كان إماما في اللغة كما كان إماما في الشريعة ، وقال : كذلك الجواب إذا كان أكثر من خمسة أوسق ، فأما ما دون خمسة أوسق فلا بأس به لما روى محمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبو هريرة } ، فقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة ما حرم من المزابنة ما دون خمسة ، والمرخص من جملة ما حرم يكون مباحا وتفسير العرية - عندنا - ما ذكره رخص في بيع العرايا بالتمر فيما دون خمسة أوسق في الموطإ رضي الله عنه وهو أن يكون لرجل نخيل فيعطي رجلا منها ثمرة نخلة أو نخلتين يلقطهما لعياله ، ثم يثقل عليه دخوله حائطه ، فيسأله أن يتجاوز له عنها على أن يعطيه بمكيلتها تمرا عند إصرام النخل - وذلك ما لا بأس به عندنا ; لأنه لا بيع هناك ، بل التمر كله لصاحب النخل ، فإن شاء سلم له ثمر النخل وإن شاء أعطاه بمكيلتها من التمر ، إلا أنه سماه الراوي بيعا لتصوره بصور البيع ، لا أن يكون بيعا حقيقة ، بل هو عطية ، ألا ترى أنه لم يملكه المعرى له لانعدام القبض ؟ فكيف يجعل بيعا ؟ ولأنه لو جعل بيعا لكان بيع التمر بالتمر إلى أجل - وإنه لا يجوز بلا خلاف ، دل أن العرية المرخص فيها ليست ببيع حقيقة ، بل هي عطية ، ولأن العرية هي العطية لغة ، قال مالك بن أنس رضي الله عنه : حسان بن ثابت
ليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح
.ولو يراعى في جوازه طريق الاعتبار ، وهو أن يكون كيل التمر أكثر من كيل الثمر ; ليكون الثمر بمثله والزيادة بإزاء النخل ، فإن كان أقل لا يجوز ; لأن التمر يكون بمثل كيله ، وزيادة التمر مع النخل تكون زيادة لا يقابلها عوض ، فيكون ربا . اشترى بكر من تمر نخلا عليها ثمر ، وسمى التمر أو ذكر كل قليل وكثير هو منه حتى دخل في البيع
وكذا إذا كان مثله ; لأن النخل يكون فضلا لا يقابله عوض في عقد المعاوضة وكذا إذا كان لا يدرى عندنا ، خلافا وسنذكر المسألة - إن شاء الله تعالى - ثم إنما يجوز على طريق الاعتبار إذا كان التمر نقدا ، فإن كان نسيئة لم يجز لتحقق ربا النساء هذا إذا كان ثمر النخل بسرا أو رطبا أو تمرا يابسا عند العقد فإن كان كفرى جاز البيع كيف ما كان من غير شرط الاعتبار ; لأنه لزفر وأنه جائز كيف ما كان . بيع الكفرى بالتمر ،
ولو لم يكن التمر موجودا عند العقد ، ثم أثمر النخل قبل القبض كرا أو أكثر من الكر - لا يفسد البيع ، بخلاف ما إذا كان التمر موجودا عند العقد ، ثم أثمر النخل قبل القبض ، فباعه مع النخل بالتمر ، وكيل التمر مثل كيل ثمر النخل ، أو أقل - حيث يفسد البيع ; لأن العاقدين أدخلا الربا في العقد ; لأنهما قابلا الثمن بكل المبيع فانقسم الثمن عليهما ، وبعض المبيع مال الربا ، فدخل الربا في العقد باشتراطهما ، واشتراط الربا في العقد مفسد له ، وههنا البيع كان صحيحا في الأصل ; لأن الثمن خلاف جنس المبيع ، إذ المبيع هو النخل وحده إلا أنه إذا زاد فقد صار مبيعا في حال البقاء لا بصنعهما ، فبقي البيع صحيحا ، والزيادة ملك المشتري ، وينقسم الثمن على قيمة النخل وقيمة الزيادة ، لكن تعتبر قيمة النخل وقت العقد ، وقيمة الزيادة وقت القبض ، فيطيب له من التمر قدر حصته من الثمن ; لأنه فضل له ذلك القدر ببدل ، ولا يطيب له الفضل ويتصدق به ; لأنه ربح ما لم يضمن .
ولو قضى الثمن من التمر الحادث ينظر ، إن قضاه منه قبل القبض فقضاؤه باطل ; لأن القضاء منه تصرف في المبيع قبل القبض ، وإنه لا يجوز ، وجعل كأنه لم يقبض ، حتى لو لا يسقط شيء من الثمن ، وإن أكله البائع تسقط حصته من الثمن ، وإن كان المشتري قبض الثمن ، ثم قضى منه جاز [ ص: 195 ] القضاء ; لأنه تصرف في المبيع بعد القبض - وإنه جائز ، وعليه أن يتصدق بما زاد على حصته من الثمن والله - سبحانه وتعالى - أعلم وعلى هذا هلك الثمن في يد البائع بآفة سماوية ولو بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة - والقيمة فيهما - مجازفة جاز ; لأن المماثلة في بيع الجنس بخلاف الجنس غير مشروطة ، ولهذا جازت المفاضلة فيه ، فالمجازفة أولى ، وكذلك القيمة . تبايعا حنطة بشعير ، أو ذهبا بفضة مجازفة
وعلى هذا يخرج بيع الموزون بجنسه وغير جنسه ، كما إذا بأن اشترى سيفا محلى بفضة مفردة ، أو منطقة مفضضة ، أو لجاما أو سرجا أو سكينا مفضضا ، أو جارية في عنقها طوق من فضة ، أو اشترى فضة مع غيرها بفضة مفردة ، كما إذا اشترى ثوبا منسوجا بالذهب بذهب مفرد ، أو جارية مع حليتها - وحليها ذهب - بذهب مفرد ، ونحو ذلك - أنه لا يجوز مجازفة عندنا ، بل يراعى فيه طريق الاعتبار ، وهو أن يكون وزن الفضة المفردة ، أو الذهب المفرد أكثر من المجموع مع غيره ; ليكون قدر وزن المفرد بمثله من المجموع ، والزيادة بخلاف جنسه ، فلا يتحقق الربا ، فإن كان وزن المفرد أقل من وزن المجموع لم يجز - لأن زيادة وزن المجموع مع خلاف الجنس لا يقابله عوض في عقد البيع ، فيكون ربا وكذلك إذا كان مثله في الوزن ; لأنه يكون الفضة بمثلها ، والذهب بمثله ، فالفضل يكون ربا وإن كان من خلاف جنسه وكذلك إذا كان لا يعلم وزنه أنه أكثر أو مثله أو أقل ، أو اختلف أهل النظر فيه ، فقال بعضهم : الثمن أكثر وقال بعضهم : هو مثله - لا يجوز عندنا ، وعند اشترى ذهبا وغيره بذهب مفرد ، يجوز . زفر
( وجه ) قوله : إن الأصل في البيع جوازه ، والفساد بعارض الربا ، وفي وجوده شك ، فلا يثبت الفساد بالشك ; لأن جهة الفساد في هذا العقد أكثر من جهة الجواز ; لأن وزن المفرد لو كان أقل يفسد ، وكذلك لو كان مثله ، ولو كان أكثر يجوز ، فجاز من وجه وفسد من وجهين ، فكانت الغلبة لجهة الفساد ، والحكم للغالب ، ثم إذا كان وزن المفرد أكثر حتى جاز البيع ، فيجتمع في هذا العقد صرف - وهو بيع الفضة بالفضة ، أو الذهب بالذهب - ، وبيع مطلق - وهو بيع الذهب أو الفضة بخلاف جنسها - فيراعى في الصرف شرائطه وسنذكر شرائط الصرف في موضعه إن شاء الله تعالى .
وإذا فات شيء من الشرائط حتى فسد الصرف هل يتعدى الفساد إلى البيع المطلق ؟ فيه تفصيل نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى هذا إذا اشترى فضة مع غيرها بفضة مفردة ، أو ذهبا مع غيره بذهب مفرد ، فأما إذا فالبيع جائز ; لأنه لا ربا عند اختلاف الجنس ، غير أنه يقسم المفرد على قيمة المجموع وقيمة ذلك الغير ، فما كان بمقابلة الذهب أو الفضة يكون صرفا ; فيراعى فيه شرائط الصرف ، وما كان بمقابلة غيره يكون بيعا مطلقا ، على ما نذكره في بيان شرائط الصرف وعلى هذا الأصل يخرج اشترى ذهبا مع غيره بفضة مفردة ، أو فضة مع غيرها بذهب مفرد أما تراب معدن الفضة فلا يخلو إما أن يكون باعه بفضة ، وإما أن يكون باعه بغيرها ، فإن باعه بفضة لم يجز ; لأن البيع يقع على ما في التراب من الفضة لا على التراب ; لأنه لا قيمة له ، والمماثلة بين الفضتين ليست بمعلومة ، فكان هذا البيع بيع الفضة بالفضة - مجازفة - فلا يجوز . بيع تراب معدن الفضة والذهب ،
وإن باعه بذهب جاز ; لأن الربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس ، ويراعى فيه شرائط الصرف ، ثم ينظر إن لم يخلص منه شيء تبين أن البيع كان فاسدا ; لأنه تبين أنه باع ما ليس بمال ، فصار كما لو اشترى شخصا على أنه عبد ثم تبين أنه حر ، أو اشترى شاة مسلوخة على أنها مذبوحة ثم تبين أنها ميتة ، فإن خلص منه شيء فالأمر ماض ، والمشتري بالخيار ; لأنه اشترى شيئا لم يره ، فأشبه ما لو اشترى ثوبا في سقط ، أو سمكة في جب ، ولو باعه بعوض جاز أيضا لما قلنا ، ثم ينظر إن خلص منه شيء أو لم يخلص على ما ذكرنا ، ولو باعه بتراب معدن مثله من الفضة لم يجز ; لأن البيع يقع على ما فيها من الفضة ، ولا يعلم تساويهما في الوزن ، فكان بيع الفضة بالفضة مجازفة ، ولو باعه بتراب معدن الذهب جاز ; لاختلاف الجنس ، ويراعى فيه شرائط الصرف ، ثم إن لم يخلص منه شيء تبين أن البيع كان فاسدا ; لأنه تبين أنه باع ما ليس بمال .
وكذا إن خلص من أحدهما ولم يخلص من الآخر ; لأنه تبين أنه باع المال بما ليس بمال ، وإن خلص من كل واحد منهما فالأمر ماض ، ولهما خيار الرؤية ; لأن كل واحد منهما مشتر ما لم يره وكذلك لو كان تراب معدن الفضة بين رجلين فاقتسماه - لم يجز ; لأن القسمة فيها معنى البيع فلا يحتمل المجازفة كالبيع ولو باع منه قفيزا بغير عينه بذهب أو بعرض لم يجز ; لأن المبيع ما في التراب من الفضة ، وإنه [ ص: 196 ] مجهول القدر ; لأنه متفاوت : منه قفيز يخلص منه خمسة ، ومنه قفيز يخلص منه عشرة ، فكان المبيع مجهولا جهالة مفضية إلى المنازعة ، بخلاف بيع القفيز من صبرة ; لأن قفزان الصبرة الواحدة متماثلة فلم يكن المبيع مجهولا جهالة مفضية إلى المنازعة .
ولو جاز ; لأن الجنس مختلف فلا يتحقق الربا إلا إذا لم يخلص منه شيء ، فتبين أن البيع كان فاسدا لما قلنا ، وإن خلص منه شيء فيكون ما خلص مشتركا بينها ، وله الخيار إذا رآه ولو استقرض تراب المعدن جاز ، وعلى المستقرض مثل ما خلص منه وقبض ; لأن القرض وقع على ما يخلص منه ، والقول قول القابض في قدر ما قبض وخلص ولو استأجره بنصف هذا التراب أو بثلثه أو بربعه - يجوز إن خلص منه شيء ، كما يجوز لو بيع منه شيء فتبين أن البيع كان فاسدا لما قلنا ، وإن خلص منه شيء فيكون أجره مما خلص ولو باع نصف جملة التراب ، أو ثلثها ، أو ربعها شائعا بذهب أو عرض جازت الإجارة إن خلص منه شيء ; لأنه استأجره بمال ، والأجير بالخيار ; لأنه آجر نفسه بما لم يره ، فإن شاء رضي به ولا شيء له غيره ، وإن شاء رده ورجع على المستأجر بأجر مثله بالغا ما بلغ . استأجر أجيرا بتراب المعدن بعينه
ولو استأجره بقفيز من تراب بغير عينه لا تجوز الإجارة ; لأن الأجرة ما في التراب من الفضة ، وإنه مجهول القدر ، ولهذا لم يجز بيعه ، ويكون بينهما وله الخيار ، وإن لم يخلص لا يجوز وله أجر مثله وعلى هذا حكم تراب معدن الذهب في جميع ما ذكرنا والله - سبحانه وتعالى - أعلم .