( فصل ) :
وأما الشرائط التي ترجع إلى المصالح عليه .
فأنواع : ( منها ) أن يكون مالا فلا يصح ; لأن في الصلح معنى المعاوضة فما لا يصلح عوضا في البياعات لا يصلح بدل الصلح ، وكذا إذا صالح على عبد ، فإذا هو حر ; لا يصح الصلح ; لأنه تبين أن الصلح لم يصادف محله ، وسواء كان المال عينا أو دينا ، أو منفعة ليست بعين ولا دين ; لأن العوض في المعاوضات المطلقة قد يكون عينا ، وقد يكون دينا ، وقد يكون منفعة إلا أنه يشترط القبض في بعض الأعواض في بعض الأحوال دون بعض ، وجملة الكلام فيه أن المدعى لا يخلو من أحد وجوه ( إما ) أن يكون عينا ، وهو ما يحتمل التعيين مطلقا جنسا ونوعا وقدرا وصفة واستحقاقا كالعروض من الثياب والعقار من الأرضين والدور والحيوان من العبيد والدواب والمكيل من الحنطة والشعير والموزون من الصفر والحديد ( وإما ) أن يكون دينا ، وهو ما لا يحتمل التعيين من الدراهم ، والدنانير والمكيل الموصوف في الذمة والموزون الموصوف سوى الدراهم ، والدنانير والثياب الموصوفة والحيوان الموصوف ( وإما ) أن يكون منفعة ( وإما ) أن يكون حقا ليس بعين ، ولا دين ، ولا منفعة ، وبدل الصلح لا يخلو من أن يكون عينا أو دينا أو منفعة والصلح لا يخلو من أن يكون عن إقرار المدعى عليه ، أو عن إنكاره ، أو عن سكوته ، فإن الصلح على الخمر والميتة والدم وصيد الإحرام والحرم وكل ما ليس بمال يجوز سواء كان بدل الصلح عينا ، أو دينا بعد أن كان معلوم القدر والصفة إلا الحيوان ، وإلا الثياب إلا بجميع شرائط [ ص: 43 ] السلم ; لأن هذا الصلح من الجانبين جميعا في معنى البيع فكان بدل الصلح في معنى الثمن ، وهذه الأشياء تصلح ثمنا في البياعات عينا كانت ، أو دينا إلا الحيوان ; لأنه يثبت دينا في الذمة بدلا عما هو مال أصلا ، والثياب لا يثبت دينا في الذمة إلا بشرائط السلم من بيان القدر ، والوصف والأجل ، والمكيل والموزون يثبتان في الذمة مطلقا في المعاوضة المطلقة من غير أجل ، ولا يشترط قبضه في المجلس ; لأنه ليس بصرف ولا في ترك قبضه افتراق عن دين بدين ، بل هو افتراق عن عين بعين ، أو عين بدين ، وكل ذلك جائز ، وإن كان المدعى عينا فصالح منها عن إقرار لا يخلو من أحد وجهين ( إما ) إن صالح منها على خلاف جنسها ، أو على جنسها ، فإن صالح منها على خلاف جنسها فإن صالح منها على عين جاز ; لأن الصلح عليها في معنى بيع الدين بالعين ، وأنه جائز ، ولا يشترط القبض ، وإن صالح منها على دين سواه ; لا يجوز ; لأنه بائع ما ليس عنده ; لأن الدراهم والدنانير أثمان أبدا ، وما وقع عليه الصلح مبيع فالصلح في هذه الصورة يقع بيع ما ليس عند البائع ، وأنه منهي عنه ، وإن صالح منها على جنسها ، فإن كان دينا فإن كان دراهم أو دنانير ، فصالح منها . صالح من دراهم على دراهم فهذا لا يخلو من ثلاثة ، أوجه
( إما ) أن صالح على مثل حقه ( وإما ) أن صالح على أقل من حقه .
( وإما ) أن صالح على أكثر من حقه ، فإن صالح على مثل حقه قدرا أو وصفا بأن صالح من ألف جياد على ألف جياد ، فلا شك في جوازه ، ولا يشترط القبض ; لأن هذا استيفاء عين حقه أصلا ووصفا .
ولو صالح على أقل من حقه قدرا ووصفا بأن صالح من الألف الجياد على خمسمائة نبهرجة يجوز أيضا ، ويحمل على استيفاء بعض عين الحق أصلا والإبراء عن الباقي أصلا ووصفا ; لأن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد ما أمكن .
ولو حمل على المعاوضة ; يؤدى إلى الربا ; لأنه يصير بائعا ألفا بخمسمائة ، وأنه ربا ، فيحمل على استيفاء بعض الحق ، والإبراء عن الباقي ، ولا يشترط القبض ، ويجوز مؤجلا ; لأن جوازه ليس بطريق المعاوضة ; ليكون صرفا ، وكذلك إن صالح على أقل من حقه ، وصفا لا قدرا بأن صالح عن ألف جياد على ألف نبهرجة ، أو صالح على أقل من حقه قدرا لا وصفا ، بأن صالح من ألف جياد على خمسمائة جيدة يجوز ، ويحمل على استيفاء البعض ، والحط والإبراء والتجوز بدون الحق أصلا ووصفا ; يجوز من غير قبض ومؤجلا .
ولو صالح على أكثر من حقه قدرا ووصفا بأن صالح من ألف نبهرجة على ألف وخمسمائة جياد ، أو صالح على أكثر من حقه قدرا لا وصفا بأن صالح من ألف جياد على ألف وخمسمائة نبهرجة لا يجوز ; لأنه ربا ; لأنه يحمله على المعاوضة هنا لتعذر حمله على استيفاء البعض وإسقاط الباقي ، وإن صالح على أكثر من حقه وصفا لا قدرا بأن صالح من ألف نبهرجة على ألف جياد جاز ، ويشترط الحلول ، أو التقابض حتى لو كان الصلح مؤجلا إن لم يقبض في المجلس يبطل ; لأنه صرف .
( وأما ) إذا بأن صالح من ألف نبهرجة على خمسمائة جياد لا يجوز عند صالح على أكثر من حقه وصفا ، وأقل منه قدرا ، أبي حنيفة ، وهو قول ومحمد الآخر ، وكان يقول أولا : يجوز ، ثم رجع ( وجه ) قوله الأول أن هذا حط بعض حقه ، وهو خمسمائة نبهرجة ، فيبقى عليه خمسمائة نبهرجة إلا أنه أحسن في القضاء بخمسمائة جيدة فلا يمنع عنه حتى أنه لو امتنع ; لا يكون عليه إلا خمسمائة نبهرجة . أبي يوسف
( وجه ) ظاهر الرواية أن الصلح من الألف النبهرجة على الخمسمائة الجيدة اعتياض عن صفة الجودة ، وهذا لا يجوز ; لأن الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها لقوله عليه الصلاة والسلام { } فلا يصح الاعتياض عنها لسقوط قيمتها شرعا ، والساقط شرعا ، والعدم الأصلي سواء ; ولأن الصلح على هذا الوجه لا يخلو إما أن يجعل استيفاء لعين الحق ، أو يجعل معاوضة لا سبيل إلى الأول ; لأن حقه في الرديء لا في الجيد ، فيحمل على المعاوضة فيصير بائعا ألفا نبهرجة بخمسمائة جيدة فيكون ربا ، وكذلك حكم الدنانير ، والصلح منها على دنانير كحكم الدراهم في جميع ما ذكرنا . جيدها ، ورديئها سواء
ولو صالح من دراهم على دنانير ، أو من دنانير على دراهم ; جاز ، ويشترط القبض في المجلس ; لأنه صرف .
ولو ادعى ألف درهم ، ومائة دينار ، فصالحه على مائة درهم إلى شهر ; جاز ، وطريق جوازه بأن يجعل حطا لا معاوضة ; لأنه لو جعل معاوضة ; لبطل ; لأنه يصير بعض المائة عوضا عن الدنانير ، والبعض عوضا عن الدراهم ، فيصير بائعا تسعمائة بخمسين ، فيكون ربا ، وأمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد ما أمكن ، وأمكن أن يجعل حطا للدنانير أصلا ، وبعض الدراهم [ ص: 44 ] وذلك تسعمائة ، وتأجيل البعض ، وذلك مائة إلى شهر ، وكذلك لو كان عليه ألف درهم وكر ، فصالحه على مائة جاز ، وطريق جوازه أن يجعل حطا وإسقاطا للكر لا معاوضة ; لأن استبدال المسلم فيه لا يجوز .
ولو كان المالان عليه لرجلين لأحدهما دراهم والآخر دنانير فصالحه على مائة درهم جاز ، وطريقة جوازه أن يعتبر معاوضة في حق أحدهما وحطا ، وإسقاطا في حق الآخر ، وذلك أن يقسم بدل الصلح على قدر قيمة دينهما من الدراهم ، والدنانير ، فالقدر الذي أصاب الدنانير يكون عوضا عنها فيكون صرفا ، فيراعى فيه شرائط الصرف ، فيشترط القبض في المجلس والقدر الذي أصاب الدراهم لا يجوز أن يجعل عوضا ; لأنه يؤدي إلى الربا ، فيجعل الصلح في حقه استيفاء لبعض الحق وإبراء عن الباقي ، والأصل أن الصلح متى وقع على أقل من جنس حقه من الدراهم ، والدنانير يعتبر استيفاء لبعض الحق وإبراء عن الباقي ، ومتى وقع على أكثر من جنس حقه منها ، أو وقع على جنس آخر من الدين ، والعين يعتبر معاوضة ; لأنه لا يمكن حمله على استيفاء عين الحق ، والإبراء عن الباقي ; لأن استيفاء عين الحق من جنسه يكون ، ولم يوجد فيعتبر معاوضة فما جازت به المعاوضات يجوز هذا ، وما فسدت به تلك ; يفسد به هذا ، وقد ذكرنا بعض مسائل هذا الأصل ، وعلى هذا إذا صالح من ألف حالة على ألف مؤجلة ; جاز ، ويعتبر حطا للحلول ، وتأجيلا للدين ، وتجوزا بدون من حقه لا معاوضة .
ولو صالح من ألف حالة على خمسمائة قد ذكرنا أنه يجوز ، ويعتبر استيفاء لبعض حقه وإبراء عن الباقي .
وأما إذا صالح على خمسمائة أن يعطيها إياه فهذا لا يخلو من أحد وجهين ( إما ) إن وقت لأداء الخمسمائة وقتا ( وإما ) إن لم يوقت فإن لم يوقت فالصلح جائز ، ويكون حطا للخمسمائة ; لأن هذا الشرط لا يفيد شيئا لم يكن من قبل ألا ترى أنه لو لم يذكر للزمه الإعطاء ، فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة واحدة ، وكذلك الحط على هذا بأن قال للغريم حططت عنك خمسمائة على أن تعطيني خمسمائة لما بينا ، وإن وقت بأن قال : صالحتك على خمسمائة على أن تعطينيها اليوم ، أو على أن تعجلها اليوم فأما إن اقتصر على هذا القدر ، ولم ينص على شرط العدم .
وأما إن نص عليه فقال : فإن لم تعطني اليوم ، أو إن لم تعجل اليوم ، أو على أن تعجلها اليوم ، فالألف عليك فإن نص عليه فإن أعطاه ، وعجلت في اليوم ، فالصلح ماض ، وبرئ عن خمسمائة ، وإن لم يعطه حتى مضى اليوم ، فالألف عليه بلا خلاف ، وكذلك الحط على هذا .
( وأما ) إذا اقتصر عليه ، ولم ينص على شرط العدم فإن أعطاه في اليوم برئ عن خمسمائة بالإجماع ، وأما إذا لم يعطه حتى مضى اليوم بطل الصلح ، والألف عليه عند ، أبي حنيفة ، وعند ومحمد الصلح ماض ، وعليه خمسمائة فقط . أبي يوسف
( وجه ) قوله أن شرط التعجيل ما أفاده شيئا لم يكن من قبل ; لأن التعجيل كان واجبا عليه بحكم العقد فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة واحدة .
ولو سكت عنه ; لكان الأمر على ما وصفنا ، فكذا هذا بخلاف ما إذا قال : فإن لم نفعل فكذا ; لأن التنصيص على عدم الشرط نفي للمشروط عند عدمه فكان مفيدا .
( وجه ) قولهما أن شرط التعجيل في هذه الصورة شرط انفساخ العقد عند عدمه بدلالة حال تصرف العاقل ; لأن العاقل يقصد بتصرفه الإفادة دون اللغو واللعب والعبث .
ولو حمل المذكور على ظاهر شرط التعجيل للغا ; لأن التعجيل ثابت بدونه فيجعل ذكر شرط التعجيل ظاهرا شرطا لانفساخ العقد عند عدم التعجيل فصار كأنه نص على هذا الشرط ، فقال ، فإن لم تعجل فلا صلح بيننا .
ولو كان كذلك ; لكان الأمر على ما نص عليه فكذا هذا ، وتبين بهذا أن هذا تعليق الفسخ بالشرط لا تعليق العقد ، كما إذا ، وذلك جائز لدخول الشرط على الفسخ لا على العقد فكذا هذا ، وكذلك لو باع بألف على أن ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فإن لم ينقده فلا بيع بينهما فهو جائز ، والألف لازمة للكفيل إن لم يوفه ; لأنه جعل عدم إيفاء الخمسمائة إلى رأس الشهر شرطا للكفالة بألف فإذا وجد الشرط ثبت المشروط . أخذ منه كفيلا ، وشرط على الكفيل أنه إن لم يوفه خمسمائة إلى رأس الشهر فعليه كل المال ، وهو الألف
ولو فهذا أوثق من الباب الأول ; لأن هذا هنا علق الحط بشرط التعجيل ، وهو إيفاء الخمسمائة رأس الشهر ، وجعل عدم هذا الشرط شرطا لانفساخ الحط ، وفي الباب الأول جعل عدم التعجيل شرطا للعقد ، وهو الكفالة بالألف ، والفسخ للشرط أقبل من العقد لذلك كان الثاني [ ص: 45 ] أوثق من الأول ، وكذلك لو جعل المال نجوما بكفيل ، أو بغير كفيل ، وشرط أنه إن لم يوفه كل نجم عند محله ، فالمال حال عليه فهو جائز على ما شرط ; لأنه جعل الإخلال بنجم شرطا لحلول كل المال عليه ، وأنه صحيح . ضمن الكفيل الألف ، ثم قال : حططت عنك خمسمائة على أن توفيني رأس الشهر خمسمائة فإن لم تفعل فالألف عليك
ولو فإن أدى إليه خمسمائة غدا يبرأ من الباقي إجماعا ، وإن لم يؤد ، فعليه الألف عند كان له عليه ألف فقال : أد إلي من الألف خمسمائة غدا على أنك بريء من الباقي ، أبي حنيفة ، وعند ومحمد ليس عليه إلا خمسمائة ، وقد مرت المسألة . أبي يوسف
ولو قال : إن أديت إلي خمسمائة فأنت بريء من الباقي ، أو قال : متى أديت فأد إليه خمسمائة لا يبرأ عن الخمسمائة الباقية حتى يبرئه ، وكذلك إذا قال لمكاتبه ذلك فأدى خمسمائة لا يبرأ عن الباقي حتى يبرئه ; لأن هذا تعليق البراءة بالشرط ، وأنه باطل بخلاف ما إذا كان بلفظ الصلح أو الحط أو الأمر ; لأن ذلك ليس تعليق البراءة بالشرط على ما مر .
ولو عتق ; لأن هذا تعليق العتق بالشرط ، وذلك في حق المكاتب صحيح . قال لمكاتبه إن أديت إلي خمسمائة فأنت حر فأدى خمسمائة
ولو كان له على إنسان ألف مؤجلة ، فصالح منها فهذا لا يخلو من أحد وجهين ، إما أن صالح منها على أقل من حقه ، أو على تمام حقه ، وكل ذلك لا يخلو من أن يشترط التعجيل ، أو لم يشترط ، فإن صالح على أقل من حقه قدرا أو وصفا أو قدرا ووصفا ، ولم يشترط التعجيل لما وقع عليه الصلح جاز ، ويكون حطا ، وتجوزا بدون حقه ، وله أن يأخذ الباقي بعد حل الأجل ، وإن شرط التعجيل فالصلح باطل ، وعليه رد ما قبض والرجوع برأس ماله بعد حل الأجل ; لأن فيه معاوضة الأجل ، وهو التعجيل بالحط ، وهذا لا يجوز ; لأن الأجل ليس بمال ، وإن صالح على تمام حقه ; جاز ، وإن شرط التعجيل فإن صالح من ألف مؤجلة على ألف معجلة لكن بشرط القبض قبل الافتراق عن المجلس ، وكذلك حكم الدنانير على هذا .
ولو كان الواجب عليه قيمة المستهلك فإن كان المستهلك من ذوات القيمة ، فصالح فإن صالح على الدراهم والدنانير حالة أو مؤجلة جاز الصلح ; لأن الواجب في ذمته قبل المتلف صورة ومعنى كذا الاستهلاك تحقيقا للماثلة المعلقة ، ثم يملكه بأداء الضمان فإذا صالح كان هذا الصلح على عين حقه فيجوز على أي وصف كان ، وإن صالح على غير الدراهم والدنانير إن كان عينا ; جاز ، ولا يشترط القبض ، وإن كان دينا موصوفا يجوز أيضا لكن القبض في المجلس شرط .
ولو كان الواجب عليه مثل المستهلك فإن كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون الذي ليس في تبعيضه ضرر فحكم الصلح فيه كحكم الصلح في كر الحنطة فنقول ، وبالله التوفيق .