والكلام في التسمية في مواضع ، أحدها أنها من القرآن أم لا ، والثاني أنها من الفاتحة أم لا ، والثالث أنها من رأس السورة أم لا ، وينبني على كل فصل ما يتعلق به من الأحكام .
أما الأول فالصحيح من مذهب أصحابنا ; لأن الأمة أجمعت على أن ما كان بين الدفتين مكتوبا بقلم الوحي فهو من القرآن والتسمية كذلك ، وكذا روى أنها من القرآن المعلى عن فقال : قلت محمد لمحمد فقال : ما بين الدفتين كله قرآن ، فقلت : فما بالك لا تجهر بها فلم يجبني . : التسمية آية من القرآن أم لا ؟
وكذا روى الجصاص عن أنه قال : التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السورة للبداءة بها تبركا وليست بآية من كل واحدة منها ، وإليه أشار في كتاب الصلاة فإنه قال : ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم ، وينبني على هذا أن فرض القراءة في الصلاة يتأدى بها عند محمد إذا قرأها على قصد القراءة دون الثناء عند بعض مشايخنا ; لأنها آية من القرآن . أبي حنيفة
وكذا روي عن أن من ترك بسم الله الرحمن الرحيم في القرآن فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية ، وقال بعضهم : لا يتأدى ; لأن في كونها آية تامة احتمال فإنه روي عن عبد الله بن المبارك الأوزاعي أنه قال : ما أنزل الله في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم إلا في سورة النمل ، وإنها في النمل وحدها ليست بآية تامة وإنما الآية قوله { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } فوقع الشك في كونها آية تامة فلا تجوز الصلاة بالشك وكذا . يحرم على الجنب والحائض والنفساء قراءتها على قصد القرآن
أما على قياس رواية فظاهر ; لأن ما دون الآية يحرم عليهم ، وكذا على رواية الكرخي لاحتمال أنها آية تامة فتحرم قراءتها عليهم احتياطا . الطحاوي
وأما الثاني والثالث فعند أصحابنا ليست من الفاتحة ولا من رأس كل سورة ، وقال : إنها من الفاتحة قولا واحدا ، وله الشافعي قولان ، وقال في كونها من رأس كل سورة : لا أعرف في هذه المسألة بعينها عند متقدمي أصحابنا في الاختلاف نصا لكن أمرهم بالإخفاء دليل على أنها ليست من الفاتحة ; لامتناع أن يجهر ببعض السورة دون البعض احتج الكرخي بما روى الشافعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { أبو هريرة } فقد عد الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم دل أنها من الفاتحة ; ولأنها كتبت في المصاحف على رأس الفاتحة وكل سورة بقلم الوحي فكانت من الفاتحة ومن كل سورة ، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم خبرا عن الله تعالى أنه قال : { التسمية آية من الفاتحة } وجه الاستدلال به من وجهين ، أحدهما أنه بدأ بقوله الحمد لله رب العالمين لا بقوله بسم الله الرحمن الرحيم ، ولو كانت من الفاتحة لكانت البداءة بها لا بالحمد . قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم قال الله تعالى : مجدني عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل
والثاني أنه نص على المناصفة ولو كانت التسمية من الفاتحة لم تتحقق المناصفة بل يكون ما لله أكثر ; لأنه يكون في النصف الأول أربع آيات ونصف ; ولأن كون الآية من سورة كذا ومن موضع كذا لا يثبت إلا بالدليل المتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 204 ] وقد ثبت بالتواتر أنها مكتوبة في المصاحف ولا تواتر على كونها من السورة ولهذا اختلف أهل العلم فيه فعدها قراء أهل الكوفة من الفاتحة ولم يعدها قراء أهل البصرة منها ، وذا دليل عدم التواتر ووقوع الشك والشبهة في ذلك فلا يثبت كونها من السورة مع الشك ; ولأن مما اختص به كون التسمية من كل سورة لا يوافقه في ذلك أحد من سلف الأمة وكفى به دليلا على بطلان المذهب ، والدليل عليه ما روي عن الشافعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } وقد اتفق القراء وغيرهم على أنها ثلاثون آية سوى بسم الله الرحمن الرحيم . سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك
ولو كانت هي منها لكانت إحدى وثلاثين آية وهو خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم وكذا انعقد الإجماع من الفقهاء والقراء أن سورة الكوثر ثلاث آيات وسورة الإخلاص أربع آيات ولو كانت التسمية منها لكانت سورة الكوثر أربع آيات وسورة الإخلاص خمس آيات وهو خلاف الإجماع .
وأما ما روي من الحديث ففيه اضطراب فإن بعضهم شك في ذكر في الإسناد ولأن مداره على أبي هريرة عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن ولم يرفعه ، وذكر أبي هريرة وقال : لقيت أبو بكر الحنفي نوحا فحدثني به عن سعيد المقبري عن ولم يرفعه ، والاختلاف في السند والوقف والرفع يوجب ضعفا فيه ; ولأنه في حد الآحاد وخبر الواحد لا يوجب العلم وكون التسمية من الفاتحة لا تثبت إلا بالنقل الموجب للعلم مع أنه عارضه ما هو أقوى منه وأثبت وأشهر وهو حديث القسمة فلا يقبل في معارضته . أبي هريرة
أما قوله إنها كتبت في المصاحف بقلم الوحي على رأس السور فنعم لكن هذا يدل على كونها من القرآن لا على كونها من السور لجواز أنها كتبت للفصل بين السور لا لأنها منها فلا يثبت كونها من السور بالاحتمال ، وينبني على هذا أنه عندنا ; لأنه لا نص في الجهر بها وليست من الفاتحة حتى يجهر بها ضرورة الجهر بالفاتحة ، وعنده يجهر بها في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة كما يجهر بالفاتحة لكونها من الفاتحة ولأن التسمية متى ترددت بين أن تكون من الفاتحة وبين أن لا تكون تردد الجهر بين السنة والبدعة ; لأنها إذا لم تكن منها التحقت بالأذكار ، والجهر بالأذكار بدعة والفعل إذا تردد بين السنة والبدعة تغلب جهة البدعة ; لأن الامتناع عن البدعة فرض ولا فرضية في تحصيل السنة أو الواجب فكان الإخفاء بها أولى ، والدليل عليه ما روي عن لا يجهر بالتسمية في الصلاة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الفضل وعبد الله بن عباس وغيرهم رضي الله عنهم أنهم كانوا يخفون التسمية وكثير منهم قال : الجهر بالتسمية إعرابية والمنسوب إليهم باطل لغلبة الجهل عليهم بالشرائع . وأنس
وروي عن رضي الله عنه أنه قال { أنس أبي بكر رضي الله عنهما وكانوا لا يجهرون بالتسمية وعمر } ، ثم عندنا إن لم يجهر بالتسمية لكن يأتي بها الإمام لافتتاح القراءة بها تبركا كما يأتي بالتعوذ في الركعة الأولى باتفاق الروايات ، وهل يأتي بها في أول الفاتحة في الركعات الأخر ؟ عن : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف روايتان ، روى أبي حنيفة الحسن عنه أنه لا يأتي بها إلا في الركعة الأولى ; لأنها ليست من الفاتحة عندنا وإنما يفتتح القراءة بها تبركا وذلك مختص بالركعة الأولى كالتعوذ ، وروى المعلى عن عن أبي يوسف أنه يأتي بها في كل ركعة وهو قول أبي حنيفة أبي يوسف ; لأن التسمية إن لم تجعل من الفاتحة قطعا بخبر الواحد لكن خبر الواحد يوجب العمل فصارت من الفاتحة عملا فمتى لزمه قراءة الفاتحة يلزمه قراءة التسمية احتياطا . ومحمد
وأما عند رأس كل سورة في الصلاة فلا يأتي بالتسمية عند أبي حنيفة ، وقال وأبي يوسف يأتي بها احتياطا كما في أول الفاتحة ، والصحيح قولهما ; لأن احتمال كونها من السورة منقطع بإجماع السلف على ما مر وفي أنها ليست من الفاتحة لا إجماع فبقي الاحتمال فوجب العمل به في حق القراءة احتياطا ، ولكن لا يعتبر هذا الاحتمال في حق الجهر ; لأن المخافتة أصل في الأذكار والجهر بها بدعة في الأصل فإذا احتمل أنها ذكر في هذه الحالة واحتمل أنها من الفاتحة كانت المخافتة أبعد عن البدعة فكانت أحق . محمد
وروي عن أنه إذا كان يخفي بالقراءة يأتي بالتسمية بين الفاتحة والسورة ; لأنه أقرب إلى متابعة المصحف وإذا كان يجهر بها لا يأتي ; لأنه لو فعل لأخفى بها فيكون [ ص: 205 ] سكتة له في وسط القراءة وذلك غير مشروع ثم يقرأ بفاتحة الكتاب والسورة وقد بينا أصل فرضية القراءة وقدرها ومحل القراءة المفروضة في بيان أركان الصلاة . محمد