[ ص: 84 ] فصل
المعاصي تمحق البركة
ومن عقوباتها : أنها تمحق بركة العمر ، وبركة الرزق ، وبركة العلم ، وبركة العمل ، وبركة الطاعة .
وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا ، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله ، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق ، قال الله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ الأعراف : 96 ] .
وقال تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ الجن : 16 - 17 ] .
وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .
وفي الحديث : . إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته ، وإن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط
وقد تقدم الأثر الذي ذكره أحمد في كتاب الزهد : أنا الله ، إذا رضيت باركت ، وليس لبركتي منتهى ، وإذا غضبت لعنت ، ولعنتي تدرك السابع من الولد .
وليست سعة الرزق والعمل بكثرته ، ولا طول العمر بكثرة الشهور والأعوام ، ولكن سعة الرزق وطول العمر بالبركة فيه .
وقد تقدم أن عمر العبد هو مدة حياته ، ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره ، بل حياة البهائم خير من حياته ، فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه ، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ، ومحبته ، وعبادته وحده ، والإنابة إليه ، والطمأنينة بذكره ، والأنس بقربه ، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ، ولو تعرض عنها بما تعوض مما في الدنيا ، بل ليست الدنيا بأجمعها عوضا عن هذه الحياة ، فمن كل شيء يفوت العبد عوض ، وإذا فاته الله لم يعوض عنه شيء البتة .
وكيف يعوض الفقير بالذات عن الغني بالذات ، والعاجز بالذات عن القادر بالذات ، والميت عن الحي الذي لا يموت ، والمخلوق عن الخالق ، ومن لا وجود له ولا شيء له من [ ص: 85 ] ذاته البتة عمن غناه وحياته وكماله ووجوده ورحمته من لوازم ذاته ؟ وكيف يعوض من لا يملك مثقال ذرة عمن له ملك السماوات والأرض .
وإنما كانت معصية الله سببا لمحق بركة الرزق والأجل ، لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها ، فسلطانه عليهم ، وحوالته على هذا الديوان وأهله وأصحابه ، وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه ، فبركته ممحوقة ، ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة اسم الله من البركة ، وذكر اسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة ولا معارض له ، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة ، فإن الرب هو الذي يبارك وحده ، والبركة كلها منه ، وكل ما نسب إليه مبارك ، فكلامه مبارك ، ورسوله مبارك ، وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك ، وبيته الحرام مبارك ، وكنانته من أرضه ، وهي الشام أرض البركة ، وصفها بالبركة في ست آيات من كتابه ، فلا مبارك إلا هو وحده ، ولا مبارك إلا ما نسب إليه ، أعني إلى ألوهيته ومحبته ورضاه ، وإلا فالكون كله منسوب إلى ربوبيته وخلقه ، وكل ما باعده من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه ، ولا خير فيه ، وكل ما كان منه قريبا من ذلك ففيه من البركة على حسب قربه منه .
وضد البركة اللعنة ؛ فأرض لعنها الله أو شخص لعنه الله أو عمل لعنه الله أبعد شيء من الخير والبركة ، وكلما اتصل بذلك وارتبط به وكان منه بسبيل فلا بركة فيه البتة .
وقد لعن عدوه إبليس وجعله أبعد خلقه منه ، فكل ما كان جهته فله من لعنة الله بقدر قربه واتصاله به ، فمن هاهنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل ، وكل وقت عصيت الله فيه ، أو مال عصي الله به ، أو بدن أو جاه أو علم أو عمل فهو على صاحبه ليس له ، فليس له من عمره وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله إلا ما أطاع الله به .
ولهذا من الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها ، ويكون عمره لا يبلغ عشرين سنة أو نحوها ، كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها ، وهكذا الجاه والعلم .
وفي الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - . الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله وما والاه ، أو عالم أو متعلم
وفي أثر آخر : فهذا هو الذي فيه البركة خاصة ، والله المستعان . الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله