فصل
المعاصي عدو لدود
، وجيش يقويه به على حربه ، وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين ، ولا ينام منه ولا يغفل عنه ، يراه هو وقبيله من حيث لا يراه ، يبذل جهده في معاداته في كل حال ، ولا يدع أمرا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه ، ويستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن ، وغيرهم من شياطين الإنس ، فقد نصب له الحبائل ، وبغى له الغوائل ، ومد حوله الأشراك ، ونصب له الفخاخ والشباك ، وقال لأعوانه : دونكم عدوكم وعدو أبيكم لا يفوتكم ولا يكون حظه الجنة وحظكم النار ، ونصيبه الرحمة ونصيبكم اللعنة ، وقد علمتم أن ما جرى علي وعليكم من الخزي والإبعاد من رحمة الله بسببه ومن أجله ، فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية ، إذ قد فاتنا شركة صالحيهم في الجنة . وقد أعلمنا الله سبحانه بذلك كله من عدونا وأمرنا أن نأخذ له أهبته ونعد له عدته . ومن عقوباتها : أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه
ولما علم سبحانه أن آدم وبنيه قد بلوا بهذا العدو وأنه قد سلط عليهم أمدهم بعساكر وجند يلقونهم بها ، وأمد عدوهم أيضا بجند وعساكر يلقاهم بها ، التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها ، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ، وأخبر أن [ ص: 96 ] ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه ، وهي التوراة والإنجيل والقرآن ، وأخبر أنه لا أوفى بعهده منه سبحانه ، ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشتري من هو ؟ وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة ، وإلى من جرى على يديه هذا العقد ، فأي فوز أعظم من هذا ؟ وأي تجارة أربح منه ؟ وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر
ثم أكد سبحانه معهم هذا الأمر بقوله : ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين [ سورة الصف : 10 - 13 ] .
ولم يسلط سبحانه هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات إليه ، إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه ، وأهله أرفع الخلق عنده درجات ، وأقربهم إليه وسيلة ، فعقد سبحانه لواء هذه الحرب لخلاصة مخلوقاته ، وهو القلب الذي محل معرفته ومحبته ، وعبوديته والإخلاص له ، والتوكل عليه والإنابة إليه ، فولاه أمر هذه الحرب ، وأيده بجند من الملائكة لا يفارقونه له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ سورة الرعد : 11 ] .
يعقب بعضهم بعضا ، كلما ذهب بدل جاء بدل آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير ويحضونه عليه ، ويعدونه بكرامة الله ويصبرونه ، ويقولون : إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد .
ثم أمده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه ، فأرسل إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل إليه كتابه ، فازداد قوة إلى قوته ، ومددا إلى مدده ، وعدة إلى عدته ، وأمده مع ذلك بالعقل وزيرا له ومدبرا ، وبالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له ، وبالإيمان مثبتا له ومؤيدا وناصرا ، وباليقين كاشفا له عن حقيقة الأمر ، حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه ، فالعقل يدبر أمر جيشه ، والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللائقة بها ، والإيمان يثبته ويقويه ويصبره ، واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة .
ثم أمد سبحانه القائم بهذه الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة ، فجعل العين طليعته ، والأذن صاحب خبره ، واللسان ترجمانه ، واليدين والرجلين أعوانه ، وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له ويسألون له أن يقيه السيئات ويدخله الجنات ، وتولى سبحانه الدفع [ ص: 97 ] والدفاع عنه بنفسه وقال : هؤلاء حزبي ، وحزب الله هم المفلحون ، قال الله تعالى : أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون [ المجادلة : 22 ] .
وهؤلاء جندي وإن جندنا لهم الغالبون [ سورة الصافات : 173 ] .
وعلم عباده كيفية هذه الحرب والجهاد ، فجمعها لهم في أربع كلمات فقال : ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [ سورة آل عمران : 200 ] .
ولا يتم أمر هذا إلا بهذه الأمور الأربعة ، فلا يتم الصبر إلا بمصابرة العدو ، وهو مقاومته ومنازلته ، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهي المرابطة ، وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل منه العدو ، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل ، فهذه الثغور يدخل منها العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدر عليه ، فالمرابطة لزوم هذه الثغور ، ولا يخلي مكانها فيصادف العدو الثغر خاليا فيدخل منه . الجهاد
فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الخلق بعد النبيين والمرسلين ، وأعظمهم حماية وحراسة من الشيطان ، وقد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد ، فدخل منه العدو ، فكان ما كان .
وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى ، فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى ، ولا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر .
التقاء الجيشين فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين ، واصطدام العسكرين وكيف تدال مرة ، ويدال عليك أخرى ؟ أقبل ملك الكفرة بجنوده وعساكره ، فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته ، أمره نافذ في أعوانه ، وجنده قد حفوا به ، يقاتلون عنه ويدافعون عن حوزته ، فلم يمكنهم الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه ، فسأل عن ، فقال لأعوانه : ادخلوا عليها من مرادها ، وانظروا مواقع محبتها وما هو محبوبها فعدوها به ومنوها إياه وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها ، فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها ، ثم جروها بها إليكم ، فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغر العين والأذن [ ص: 98 ] واللسان والفم واليد والرجل ، فرابطوا على هذا الثغور كل المرابطة ، فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير ، أو جريح مثخن بالجراحات ، ولا تخلوا هذه الثغور ، ولا تمكنوا سرية تدخل فيها إلى القلب فتخرجكم منها ، وإن غلبتم فاجتهدوا في إضعاف السرية ووهنها ، حتى لا تصل إلى القلب ، فإن وصلت إليه وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئا . أخص الجند به وأقربهم منه منزلة ، فقيل له : هي النفس
ثغر العين فإذا استوليتم على هذه الثغور فامنعوا أن يكون نظره اعتبارا ، بل اجعلوا نظره تفرجا واستحسانا وتلهيا ، فإن استرق نظره عبرة فأفسدوها عليه بنظر الغفلة والاستحسان والشهوة ، فإنه أقرب إليه وأعلق بنفسه وأخف عليه ، ودونكم ثغر العين ، فإن منه تنالون بغيتكم ، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر ، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة ، ثم أسقيه بماء الأمنية ، ثم لا أزال أعده وأمنيه حتى أقوي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة ، فلا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم ، وهونوا عليه أمره ، وقولوا له : مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنيعه ، وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه ، وما خلق الله لك العينين سدى ، وما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر ، وإن ظفرتم به قليل العلم فاسد العقل ، فقولوا له : هذه الصورة مظهر من مظاهر الحق ومجلى من مجاليه ، فادعوه إلى القول بالاتحاد ، فإن لم يقبل فالقول بالحلول العام أو الخاص ، ولا تقنعوا منه بدون ذلك ، فإنه يصير به من إخوان ثغر العين النصارى ، فمروه حينئذ بالعفة والصيانة والعبادة والزهد في الدنيا ، واصطادوا عليه وبه الجهال ، فهذا من أقرب خلفائي وأكبر جندي ، بل أنا من جنده وأعوانه .