[ ص: 87 ] ذكر أقضيته وأحكامه صلى الله عليه وسلم في النكاح وتوابعه
فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الثيب والبكر يزوجهما أبوهما
ثبت عنه في " الصحيحين " : ( خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها ) . أن
وفي " السنن " : من حديث : ( ابن عباس ) . وهذه غير أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم خنساء ، [ ص: 88 ] فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب ، وقضى في الأخرى بتخيير البكر .
وثبت عنه في " الصحيح " أنه قال : ( ) . لا تنكح البكر حتى تستأذن ، قالوا : يا رسول الله ، وكيف إذنها ؟ قال : أن تسكت
وفي " صحيح " : ( مسلم ) . البكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها
وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح ، ولا تزوج إلا برضاها ، وهذا قول جمهور السلف ، ومذهب ، أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه ، وهو القول الذي ندين الله به ، ولا نعتقد سواه ، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه ، وقواعد شريعته ، ومصالح أمته .
أما موافقته لحكمه ، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة ، وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعلة فيه ، فإنه قد روي مسندا ومرسلا ، فإن قلنا بقول الفقهاء : إن الاتصال زيادة ، ومن وصله مقدم على من أرسله ، فظاهر ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث ، فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله ، وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين ، فهذا مرسل قوي قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة ، والقياس ، وقواعد الشرع ، كما سنذكره فيتعين القول به .
[ ص: 89 ] وأما موافقة هذا القول لأمره فإن قال : " والبكر تستأذن " ، وهذا أمر مؤكد ؛ لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوته ولزومه ، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماع على خلافه .
وأما موافقته لنهيه فلقوله : ( ) فأمر ونهى ، وحكم بالتخيير ، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق . لا تنكح البكر حتى تستأذن
وأما موافقته لقواعد شرعه ، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها ، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها ، فكيف يجوز أن يرقها ، ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو ، وهي من أكره الناس فيه ، أبغض شيء إليها ؟ ومع هذا فينكحها إياه قهرا بغير رضاها إلى من يريده ، ويجعلها أسيرة عنده ، كما قال النبي : ( ) أي : أسرى ، ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها ، ولقد أبطل من قال : إنها إذا عينت كفئا تحبه ، وعين أبوها كفئا ، فالعبرة بتعيينه ولو كان بغيضا إليها قبيح الخلقة . اتقوا الله في النساء ، فإنهن عوان عندكم
وأما موافقته لمصالح الأمة ، فلا يخفى ، وحصول مقاصد النكاح لها به ، وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه ، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره ، وبالله التوفيق . مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه
فإن قيل : فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرق بين البكر والثيب ، وقال : ( ) ، وقال : ( ولا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ) فجعل الأيم أحق بنفسها من وليها ، فعلم أن ولي البكر أحق بها من نفسها ، وإلا لم يكن لتخصيص الأيم بذلك معنى . الأيم أحق بنفسها [ ص: 90 ] من وليها والبكر يستأذنها أبوها
وأيضا فإنه فرق بينهما في صفة الإذن ، فجعل إذن الثيب النطق ، وإذن البكر الصمت ، وهذا كله يدل على عدم اعتبار رضاها ، وأنها لا حق لها مع أبيها .
فالجواب : أنه ليس في ذلك ما يدل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورشدها ، وأن يزوجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفئا ، والأحاديث التي احتججتم بها صريحة في إبطال هذا القول ، وليس معكم أقوى من قوله : ( ) هذا إنما يدل بطريق المفهوم ، ومنازعوكم ينازعونكم في كونه حجة ، ولو سلم أنه حجة فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح ، وهذا أيضا إنما يدل إذا قلت : إن للمفهوم عموما والصواب أنه لا عموم له ، إذ دلالته ترجع إلى أن التخصيص بالمذكور لا بد له من فائدة ، وهي نفي الحكم عما عداه ، ومعلوم أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة ، وأن إثبات حكم آخر للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضد حكم المنطوق ، وأن تفصيله فائدة ، كيف وهذا مفهوم مخالف للقياس الصريح ، بل قياس الأولى كما تقدم ، ويخالف النصوص المذكورة . الأيم أحق بنفسها من وليها
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم : ( ) عقيب قوله : ( والبكر يستأذنها أبوها ) قطعا لتوهم هذا القول ، وأن البكر تزوج بغير رضاها ولا إذنها ، فلا حق لها في نفسها البتة ، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعا لهذا التوهم . ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون الثيب أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للبكر في نفسها حق البتة . الأيم أحق بنفسها من وليها
وقد اختلف الفقهاء في على ستة أقوال . مناط الإجبار
[ ص: 91 ] أحدها : أنه يجبر بالبكارة ، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية .
الثاني : أنه يجبر بالصغر ، وهو قول ، أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية .
الثالث : أنه يجبر بهما معا ، وهو الرواية الثالثة عن أحمد .
الرابع : أنه يجبر بأيهما وجد ، وهو الرواية الرابعة عنه .
الخامس : أنه يجبر بالإيلاد ، فتجبر الثيب البالغ ، حكاه القاضي إسماعيل عن قال : وهو خلاف الإجماع . قال : وله وجه حسن من الفقه ، فيا ليت شعري ما هذا الوجه الأسود المظلم ؟! . الحسن البصري
السادس : أنه يجبر من يكون في عياله ، ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب .