فصل
ومنها : أن الله سبحانه أطلق الرقبة هاهنا ولم يقيدها بالإيمان وقيدها في كفارة القتل بالإيمان ، فاختلف الفقهاء في على قولين : فشرطه اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل ، الشافعي ومالك ، وأحمد ، في ظاهر مذهبه ، ولم يشترطه ، ولا أهل الظاهر ، والذين لم يشترطوا الإيمان قالوا : أبو [ ص: 308 ] حنيفة
لو كان شرطا لبينه الله سبحانه ، كما بينه في كفارة القتل ، بل يطلق ما أطلقه ، ويقيد ما قيده فيعمل بالمطلق والمقيد. وزادت الحنفية أن اشتراط الإيمان زيادة على النص ، وهو نسخ ، والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن ، أو خبر متواتر .
قال الآخرون : - واللفظ - شرط الله سبحانه في رقبة القتل مؤمنة ، كما شرط العدل في الشهادة ، وأطلق الشهود في مواضع ، فاستدللنا به على أن ما أطلق من الشهادات على مثل معنى ما شرط ، وإنما رد الله أموال المسلمين على المسلمين ، لا على المشركين ، وفرض الله الصدقات ، فلم تجز إلا للمؤمنين ، فكذلك ما فرض من الرقاب لا يجوز إلا لمؤمن ، فاستدل للشافعي بأن لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد ، إذا كان من جنسه ، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم . الشافعي
وهاهنا أمران
أحدهما : أن حمل المطلق على المقيد بيان لا قياس .
الثاني : أنه إنما يحمل عليه بشرطين : أحدهما : اتحاد الحكم . والثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد . فإن كان بين أصلين مختلفين ، لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل يعينه .
قال : ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة ، وهذا بناء على هذا الأصل ، وأن النذر محمول على واجب الشرع ، وواجب العتق ، لا يتأدى إلا بعتق المسلم . ومما يدل على هذا أن ( الشافعي ) قال النبي صلى الله عليه وسلم قال : لمن استفتى في عتق رقبة منذورة ائتني بها ، فسألها أين الله ؟ فقالت : في السماء ، فقال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال : أعتقها فإنها مؤمنة : فلما وصفت الإيمان ، أمر بعتقها. انتهى . الشافعي
[ ص: 309 ] وهذا ظاهر جدا أن العتق المأمور به شرعا لا يجزئ إلا في رقبة مؤمنة ، وإلا لم يكن للتعليل بالإيمان فائدة ، فإن الأعم متى كان علة للحكم كان الأخص عديم التأثير .
وأيضا فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغه لعبادة ربه ، وتخليصه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق ، ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع ، محبوب له ، فلا يجوز إلغاؤه ، وكيف يستوي عند الله ورسوله تفريغ العبد لعبادته وحده ، وتفريغه لعبادة الصليب ، أو الشمس والقمر والنار ، وقد بين سبحانه اشتراط الإيمان في كفارة القتل ، وأحال ما سكت عنه على بيانه ، كما بين اشتراط العدالة في الشاهدين ، وأحال ما أطلقه وسكت عنه على ما بينه ، وكذلك غالب مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها ، وهي أكثر من أن تذكر ، فمنها : قوله تعالى فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) [ النساء : 114 ] وفي موضع آخر ، بل مواضع يعلق الأجر بنفس العمل اكتفاء بالشرط المذكور في موضعه ، وكذلك قوله تعالى : فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) [ الأنبياء : 94 ] ، وفي موضع يعلق الجزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاء بما علم من شرط الإيمان ، وهذا غالب في نصوص الوعد والوعيد .