ذكر الحكم الذي حكم به رضي الله عنه في الجماعة الذين علي بن أبي طالب ، فأقرع بينهم فيه ، ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم ينكره وقعوا على امرأة في طهر واحد ثم تنازعوا الولد
ذكر أبو داود في " سننهما " من حديث والنسائي عبد الله بن الخليل ، عن رضي الله عنه قال : ( زيد بن أرقم أهل اليمن فقال : إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد قد وقعوا على امرأة في طهر واحد ، فقال لاثنين : طيبا بالولد لهذا ، فغليا ، ثم قال : [ ص: 385 ] لاثنين طيبا بالولد لهذا ، فغليا ، ثم قال : لاثنين طيبا بالولد لهذا ، فغليا ، فقال أنتم شركاء متشاكسون ، إني مقرع بينكم ، فمن قرع فله الولد ، وعليه لصاحبيه ثلثا الدية ، فأقرع بينهم ، فجعله لمن قرع ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه ) . وفي إسناده كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح ، ولا يحتج بحديثه ، لكن رواه أبو داود بإسناد كلهم ثقات إلى والنسائي عبد خير عن ، قال : ( زيد بن أرقم بثلاثة - وهو علي بن أبي طالب باليمن - وقعوا على امرأة في طهر واحد ، فسأل اثنين : أتقران لهذا بالولد ؟ قالا : لا . حتى سألهم جميعا ، فجعل كلما سأل اثنين قالا : لا ، فأقرع بينهم ، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة ، وجعل عليه ثلثي الدية ، قال فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك حتى بدت نواجذه ) . وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن أتي عبد خير بإسقاط ، فيكون مرسلا . قال زيد بن أرقم : وهذا أصوب . وهذا أعجب ؛ فإن إسقاط النسائي من هذا الحديث لا يجعله مرسلا ، فإن زيد بن أرقم عبد خير أدرك عليا وسمع منه ، وعلي صاحب القصة ، فهب أن لا ذكر له في السند ، فمن أين يجيء الإرسال ؟ إلا أن يقال : زيد بن أرقم عبد خير لم يشاهد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ! وعلي إذ ذاك كان باليمن ، وإنما شاهد ضحكه صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصحابة ، زيد بن أرقم وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه ، فصار الحديث به مرسلا . فيقال إذا : قد صح السند عن عبد خير عن متصلا ، فمن رجح الاتصال لكونه زيادة من الثقة فظاهر ، ومن رجح رواية الأحفظ والأضبط ، وكان الترجيح من جانبه ، ولم يكن علي قد أخبره [ ص: 386 ] بالقصة - فغايتها أن تكون مرسلة ، وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى متصلا . زيد بن أرقم
وبعد ، فاختلف الفقهاء في هذا الحكم ، فذهب إليه وقال : هو السنة في دعوى الولد ، وكان إسحاق بن راهويه يقول به في القديم ، وأما الشافعي ، فسئل عن هذا الحديث ، فرجح عليه حديث القافة ، وقال : حديث القافة أحب إلي . الإمام أحمد
وهاهنا أمران ، أحدهما : دخول القرعة في النسب ، والثاني : تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه . وأما القرعة فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة ، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال ، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ، ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة ، فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى . وأما أمر الدية فمشكل جدا ، فإن هذا ليس بموجب الدية ، وإنما هو تفويت نسبه بخروج القرعة ، فيقال وطء كل واحد صالح لجعل الولد له ، فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه بوطئه ، ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم ، فلما أخرجته القرعة لأحدهم صار مفوتا لنسبه عن صاحبيه ، فأجري ذلك مجرى إتلاف الولد ، ونزل الثلاثة منزلة أب واحد ، فحصة المتلف منه ثلث الدية ، إذ قد عاد الولد له ، فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه ، وهو ثلث الدية .
ووجه آخر أحسن من هذا ، أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به وجب عليه ضمان قيمته ، وقيمة الولد شرعا هي ديته ، فلزمه لهما ثلثا قيمته ، وهي ثلثا الدية ، وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شريكين له ، فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه ، فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة ، كإتلاف الرقيق الذي بينهم .
[ ص: 387 ] ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة قيمة أولاده لسيد الأمة لما فات رقهم على السيد لحريتهم وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء ، وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه ، وأنت إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم وجدت هذا أقوى منها ، وألطف مسلكا ، وأدق مأخذا ، ولم يضحك منه النبي صلى الله عليه وسلم سدى .
وقد يقال : لا تعارض بين هذا وبين حديث القافة ، بل إن وجدت القافة تعين العمل بها ، وإن لم توجد قافة ، أو أشكل عليهم تعين العمل بهذا الطريق ، والله أعلم .