فصل والحكم الثالث : أنه ، كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يحرم إلا خمس رضعات ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء . فأثبتت طائفة من السلف والخلف لا تحرم المصة والمصتان ، وهذا يروى عن التحريم بقليل الرضاع وكثيره علي ، وهو قول وابن عباس ، سعيد بن المسيب والحسن ، والزهري وقتادة ، والحكم ، وحماد ، ، والأوزاعي ، وهو مذهب والثوري مالك ، ، وزعم وأبي حنيفة أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في [ ص: 508 ] المهد ما يفطر به الصائم ، وهذا رواية عن الليث بن سعد رحمه الله . الإمام أحمد
وقالت طائفة أخرى : لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات ، وهذا قول ، أبي ثور وأبي عبيد ، وابن المنذر ، وداود بن علي ، وهو رواية ثانية عن أحمد .
وقالت طائفة أخرى : لا يثبت بأقل من خمس رضعات ، وهذا قول ، عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن الزبير وعطاء ، ، وهو إحدى الروايات الثلاث عن وطاوس رضي الله عنها ، والرواية الثانية عنها : أنه لا يحرم أقل من سبع ، والثالثة : لا يحرم أقل من عشر . والقول بالخمس مذهب عائشة ، الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه ، وهو قول ، وخالف ابن حزم داود في هذه المسألة .
فحجة الأولين أنه سبحانه علق التحريم باسم الرضاعة ، فحيث وجد اسمها وجد حكمها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وهذا موافق لإطلاق القرآن .
وثبت في " الصحيحين " ، عقبة بن الحارث ، أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت أمة سوداء ، فقالت : قد أرضعتكما ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأعرض عني ، قال : فتنحيت فذكرت ذلك له ، قال : وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما فنهاه عنها ، ولم يسأل عن عدد الرضاع ، قالوا : ولأنه فعل يتعلق به التحريم ، فاستوى قليله وكثيره ، كالوطء الموجب له ، قالوا : ولأن إنشاز العظم ، وإنبات اللحم يحصل بقليله وكثيره . قالوا : ولأن أصحاب العدد قد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها ، واضطربت أشد الاضطراب ، وما كان هكذا لم [ ص: 509 ] يجعله الشارع نصابا لعدم ضبطه والعلم به . عن
قال أصحاب الثلاث : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ، وعن لا تحرم المصة والمصتان قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أم الفضل بنت الحارث . وفي حديث آخر : لا تحرم الإملاجة والإملاجتان ؟ قال : لا الرضعة الواحدة . وهذه أحاديث صحيحة صريحة ، رواها أن رجلا قال : يا رسول الله هل تحرم في " صحيحه " ، فلا يجوز العدول عنها فأثبتنا التحريم بالثلاث لعموم الآية ، ونفينا التحريم بما دونها بصريح السنة قالوا : ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث . قالوا : ولأنها أول مراتب الجمع ، وقد اعتبرها الشارع في مواضع كثيرة جدا . مسلم
قال أصحاب الخمس : الحجة لنا ما تقدم في أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة ، وقد أخبرت رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي والأمر على ذلك ، قالوا : ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لسهلة بنت سهيل : سالما خمس رضعات تحرمي عليه . قالوا : أرضعي أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هي ونساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت وعائشة رضي الله عنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت إحدى بنات إخوتها أو أخواتها فأرضعته خمس رضعات . قالوا : ونفي التحريم بالرضعة والرضعتين صريح في عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيره ، وهي ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة بعضها خرج جوابا للسائل ، وبعضها تأسيس حكم مبتدأ . قالوا : وإذا علقنا التحريم بالخمس ، لم نكن قد خالفنا شيئا من النصوص التي استدللتم بها ، وإنما نكون قد قيدنا مطلقها بالخمس ، وتقييد المطلق بيان لا نسخ ولا تخصيص . عائشة
وأما من علق التحريم بالقليل والكثير ، فإنه يخالف أحاديث نفي التحريم [ ص: 510 ] بالرضعة والرضعتين ، وأما صاحب الثلاث ، فإنه وإن لم يخالفها ، فهو مخالف لأحاديث الخمس .
قال من لم يقيده بالخمس : حديث الخمس لم تنقله رضي الله عنها نقل الأخبار ، فيحتج به ، وإنما نقلته نقل القرآن ، والقرآن إنما يثبت بالتواتر ، والأمة لم تنقل ذلك قرآنا ، فلا يكون قرآنا ، وإذا لم يكن قرآنا ولا خبرا ، امتنع إثبات الحكم به . عائشة
قال أصحاب الخمس : الكلام فيما نقل من القرآن آحادا في فصلين ، أحدهما : كونه من القرآن ، والثاني : وجوب العمل به ، ولا ريب أنهما حكمان متغايران ، فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة به ، وتحريم مسه على المحدث ، وقراءته على الجنب ، وغير ذلك من أحكام القرآن ، فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التواتر ، لم يلزم انتفاء العمل به ، فإنه يكفي فيه الظن ، وقد احتج كل واحد من الأئمة الأربعة به في موضع ، فاحتج به الشافعي وأحمد في هذا الموضع ، واحتج به في وجوب التتابع في صيام الكفارة بقراءة أبو حنيفة " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " . واحتج به ابن مسعود مالك والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأم أنه السدس بقراءة أبي ، " وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة وله أخ ، أو أخت من أم ، فلكل واحد منهما السدس " ، فالناس كلهم احتجوا بهذه القراءة ، ولا مستند للإجماع سواها .
قالوا : وأما قولكم : إما أن يكون نقله قرآنا أو خبرا ، قلنا : بل قرآنا صريحا . قولكم : فكان يجب نقله متواترا ، قلنا : حتى إذا نسخ لفظه أو بقي ، أما الأول ، فممنوع ، والثاني ، مسلم ، وغاية ما في الأمر أنه قرآن نسخ لفظه ، وبقي حكمه ، فيكون له حكم قوله : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما " مما اكتفي بنقله آحادا ، وحكمه ثابت ، وهذا مما لا جواب عنه . وفي المسألة مذهبان آخران ضعيفان .
[ ص: 511 ]
أحدهما : أن ، كما سئل التحريم لا يثبت بأقل من سبع عن قول من يقول : لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات ، فقال : قد كان ذلك ، ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم ، المرة الواحدة تحرم ، وهذا المذهب لا دليل عليه . طاوس
الثاني : ، وهذا يروى عن التحريم إنما يثبت بعشر رضعات حفصة رضي الله عنهما . وعائشة
وفيها مذهب آخر ، وهو الفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن قال : كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات محرمات ، ولسائر الناس رضعات معلومات ، ثم ترك ذلك بعد ، وقد تبين الصحيح من هذه الأقوال ، وبالله التوفيق . طاوس