قال : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم صحة لا يمتري فيها أحد أنه أمر المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ سهلة بنت سهيل أن ترضع ، وكان كبيرا ذا لحية ، وقال : سالما مولى أبي حذيفة ثم ساقوا الحديث ، وطرقه وألفاظه وهي صحيحة صريحة بلا شك . أرضعيه تحرمي عليه
ثم قالوا : فهذه الأخبار ترفع الإشكال ، وتبين مراد الله عز وجل في الآيات المذكورات أن الرضاعة التي تتم بتمام الحولين ، أو بتراضي الأبوين قبل الحولين إذا رأيا في ذلك صلاحا للرضيع ، إنما هي الموجبة [ ص: 517 ] للنفقة على المرأة المرضعة ، والتي يجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها .
ولقد كان في الآية كفاية من هذا ؛ لأنه تعالى قال : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) [ البقرة : 233 ] ، فأمر الله تعالى الوالدات بإرضاع المولود عامين ، وليس في هذا تحريم للرضاعة بعد ذلك ، ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين ، وكان قوله تعالى : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) [ النساء : 23 ] ، ولم يقل في حولين ، ولا في وقت دون وقت زائدا على الآيات الأخر ، وعمومها لا يجوز تخصيصه إلا بنص يبين أنه تخصيص له لا بظن ولا محتمل لا بيان فيه ، وكانت هذه الآثار يعني التي فيها التحريم برضاع الكبير قد جاءت مجيء التواتر ، رواها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهلة بنت سهيل ، وهي من المهاجرات ، وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواها من التابعين : وزينب بنت أم سلمة ، القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ، ورواها عن هؤلاء : ، الزهري ، وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ، ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ثم رواها عن هؤلاء : ، أيوب السختياني ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة وشعبة ، ومالك ، ، وابن جريج وشعيب ، ويونس ، ، وجعفر بن ربيعة ومعمر ، ، وغيرهم ، ثم رواها عن هؤلاء الجم الغفير ، والعدد الكثير ، فهي نقل كافة لا يختلف مؤالف ولا مخالف في صحتها ، فلم يبق من الاعتراض إلا قول القائل : كان ذلك خاصا وسليمان بن بلال بسالم ، كما قال بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهن في ذلك ، فليعلم من تعلق بهذا أنه ظن ممن ظن ذلك منهن رضي الله عنهن .
هكذا في الحديث أنهن قلن : ما نرى هذا إلا خاصا بسالم ، وما ندري لعلها كانت رخصة لسالم . فإذا هو ظن بلا شك فإن الظن لا يعارض به السنن الثابتة ، قال الله تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) [ يونس : 36 ] وشتان بين احتجاج رضي الله عنها بظنها ، وبين احتجاج أم سلمة رضي الله عنها بالسنة الثابتة ، ولهذا لما قالت لها عائشة : أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، سكتت عائشة ، ولم تنطق بحرف ، وهذا إما [ ص: 518 ] رجوع إلى مذهب أم سلمة ، وإما انقطاع في يدها . عائشة
قالوا : وقول سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أرضعه وهو رجل كبير ؟ بيان جلي أنه بعد نزول الآيات المذكورات .
قالوا : ونعلم يقينا أنه لو كان ذلك خاصا بسالم ، لقطع النبي صلى الله عليه وسلم الإلحاق ، ونص على أنه ليس لأحد بعده ، كما بين أن جذعته تجزئ عنه ، ولا تجزئ عن أحد بعده . . لأبي بردة بن نيار
وأين يقع ذبح جذعة أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به حل الفرج وتحريمه ، وثبوت المحرمية والخلوة بالمرأة والسفر بها ؟ فمعلوم قطعا ، أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصا .
قالوا : وقول النبي صلى الله عليه وسلم : الرضاعة من المجاعة حجة لنا ؛ لأن شرب الكبير للبن يؤثر في دفع مجاعته قطعا ، كما يؤثر في الصغير أو قريبا منه . إنما
فإن قلتم : فما فائدة ذكره إذا كان الكبير والصغير فيه سواء ؟ قلنا : فائدته إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن ، أو المصة الواحدة التي لا تغني من جوع ، ولا تنبت لحما ، ولا تنشز عظما .
قالوا : وقوله صلى الله عليه وسلم : ليس بأبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم : لا رضاع إلا ما كان في الحولين ، وكان في الثدي قبل الفطام ، لا ربا إلا في النسيئة ، ولم يمنع ذلك ثبوت ربا الفضل بالأدلة الدالة عليه ، فكذا هذا . وإنما الربا في النسيئة
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسننه الثابتة كلها حق يجب اتباعها ، ولا يضرب بعضها ببعض ، بل تستعمل كل منها على وجهه . قالوا : ومما يدل على ذلك أن أم المؤمنين رضي الله عنها ، وأفقه نساء الأمة هي التي روت هذا وهذا ، [ ص: 519 ] فهي التي روت : عائشة وروت حديث إنما الرضاعة من المجاعة سهلة ، وأخذت به فلو كان عندها حديث مخالفا لحديث إنما الرضاعة من المجاعة سهلة ، لما ذهبت إليه وتركت حديثا واجهها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتغير وجهه ، وكره الرجل الذي رآه عندها ، وقالت : هو أخي .
قالوا : وقد صح عنها أنها كانت تدخل عليها الكبير إذا أرضعته - في حال كبره أخت من أخواتها الرضاع المحرم ، ونحن نشهد بشهادة الله ، ونقطع قطعا نلقاه به يوم القيامة ، أن أم المؤمنين لم تكن لتبيح ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهكه من لا يحل له انتهاكه ، ولم يكن الله عز وجل ليبيح ذلك على يد الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سماوات ، وقد عصم الله سبحانه ذلك الجناب الكريم ، والحمى المنيع ، والشرف الرفيع أتم عصمة ، وصانه أعظم صيانة ، وتولى صيانته وحمايته ، والذب عنه بنفسه ووحيه وكلامه ، قالوا : فنحن نوقن ونقطع ، ونبت الشهادة لله بأن فعل عائشة رضي الله عنها هو الحق ، وأن رضاع الكبير يقع به من التحريم والمحرمية ما يقع برضاع الصغير ، ويكفينا أمنا أفقه نساء الأمة على الإطلاق ، وقد كانت تناظر في ذلك نساءه صلى الله عليه وسلم ، ولا يجبنها بغير قولهن : ما أحد داخل علينا بتلك الرضاعة ، ويكفينا في ذلك أنه مذهب ابن عم نبينا ، وأعلم أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفة ، ومذهب الذي شهد له الليث بن سعد بأنه كان أفقه من الشافعي مالك ، إلا أنه ضيعه أصحابه ، ومذهب ذكره عطاء بن أبي رباح عبد الرزاق عن عنه . ابن جريج
وذكر مالك عن ، أنه سئل عن الزهري ، فاحتج بحديث رضاع الكبير سهلة بنت سهيل في قصة ، وقال سالم مولى أبي حذيفة عبد الرزاق : وأخبرني ، قال : أخبرني ابن جريج عبد الكريم ، أن المولى الأشجعي أخبره أن أباه أخبره ، أنه سأل سالم بن أبي جعد رضي الله عنه فقال : أردت أن أتزوج امرأة قد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به ، فقال له علي بن أبي طالب علي : لا تنكحها ، ونهاه عنها .
[ ص: 520 ] فهؤلاء سلفنا في هذه المسألة ، وتلك نصوصنا كالشمس صحة وصراحة . قالوا : وأصرح أحاديثكم حديث ترفعه : أم سلمة فما أصرحه لو كان سليما من العلة ، لكن هذا حديث منقطع ؛ لأنه من رواية لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام فاطمة بنت المنذر عن ، ولم تسمع منها شيئا ؛ لأنها كانت أسن من زوجها أم سلمة هشام باثني عشر عاما ، فكان مولده في سنة ستين ، ومولد فاطمة في سنة ثمان وأربعين ، وماتت سنة تسع وخمسين ، أم سلمة وفاطمة صغيرة لم تبلغها ، فكيف تحفظ عنها ، ولم تسمع من خالة أبيها شيئا وهي في حجرها ، كما حصل سماعها من جدتها ؟ أسماء بنت أبي بكر
قالوا : وإذا نظر العالم المنصف في هذا القول ، ووازن بينه وبين قول من يحد مدة الرضاع المحرم بخمسة وعشرين شهرا ، أو ستة وعشرين شهرا أو سبعة وعشرين شهرا ، أو ثلاثين شهرا من تلك الأقوال التي لا دليل عليها من كتاب الله ، أو سنة رسوله ، ولا قول أحد من الصحابة ، تبين له فضل ما بين القولين ، فهذا [ ص: 521 ] منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة ، ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهي قوته إلى هذا الحد ، وأنه ليس بأيدي أصحابه قدرة على تقديره وتصحيحه ، فاجلس أيها العالم المنصف مجلس الحكم بين هذين المتنازعين ، وافصل بينهما بالحجة والبيان لا بالتقليد ، وقال فلان .