النوع الرابع : - سبحانه - بقوله : ( المتوفى عنها زوجها فبين عدتها والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] ، فهذا يتناول المدخول بها وغيرها ، والصغيرة والكبيرة ، ولا تدخل فيه الحامل ؛ لأنها خرجت بقوله : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فجعل وضع حملهن جميع أجلهن ، وحصره فيه ، بخلاف قوله في المتوفى عنهن : يتربصن فإنه فعل مطلق لا عموم له ، وأيضا فإن قوله : [ ص: 529 ] ( أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] متأخر في النزول عن قوله : ( يتربصن ) وأيضا فإن قوله : ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] في غير الحامل بالاتفاق ، فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته ، فعمومها مخصوص اتفاقا ، وقوله : ( أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] غير مخصوص بالاتفاق ، هذا لو لم تأت السنة الصحيحة بذلك ، ووقعت الحوالة على القرآن ، فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك ، مقررة له .
فهذه أصول العدد في كتاب الله مفصلة مبينة ، ولكن اختلف في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضع من ذلك ، وقد دلت السنة بحمد الله على مراد الله منها ، ونحن نذكرها ونذكر أولى المعاني وأشبهها بها ، ودلالة السنة عليها .
فمن ذلك اختلاف السلف في ، فقال المتوفى عنها إذا كانت حاملا علي ، ، وجماعة من الصحابة : أبعد الأجلين من وضع الحمل ، أو أربعة أشهر وعشرا ، وهذا أحد القولين في مذهب وابن عباس مالك رحمه الله اختاره . قال سحنون في رواية الإمام أحمد أبي طالب عنه : علي بن أبي طالب يقولان في المعتدة الحامل : أبعد الأجلين ، وكان وابن عباس يقول : من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد ، وحديث ابن مسعود سبيعة يقضي بينهم " إذا وضعت ، [ ص: 530 ] فقد حلت " .
يتأول القرآن : ( وابن مسعود أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] هي في المتوفى عنها ، والمطلقة مثلها إذا وضعت ، فقد حلت ، وانقضت عدتها ، ولا تنقضي عدة الحامل إذا أسقطت حتى يتبين خلقه ، فإذا بان له يد أو رجل ، عتقت به الأمة ، وتنقضي به العدة ، وإذا ولدت ولدا وفي بطنها آخر ، لم تنقض العدة حتى تلد الآخر ، ولا تغيب عن منزلها الذي أصيب فيه زوجها أربعة أشهر وعشرا إذا لم تكن حاملا ، والعدة من يوم يموت أو يطلق ، هذا كلام أحمد .
وقد تناظر في هذه المسألة : ، ابن عباس رضي الله عنهما ، فقال وأبو هريرة : عدتها وضع الحمل ، وقال أبو هريرة : تعتد أقصى الأجلين ، فحكما ابن عباس رضي الله عنها ، فحكمت أم سلمة ، واحتجت بحديث لأبي هريرة سبيعة .
وقد قيل : إن رجع . ابن عباس
وقال جمهور الصحابة ومن بعدهم ، والأئمة الأربعة : إن عدتها وضع الحمل ، ولو كان الزوج على مغتسله فوضعت ، حلت .
قال أصحاب الأجلين : هذه قد تناولها عمومان ، وقد أمكن دخولها في كليهما ، فلا تخرج من عدتها بيقين حتى تأتي بأقصى الأجلين ، قالوا : ولا يمكن تخصيص عموم إحداهما بخصوص الأخرى ، لأن كل آية عامة من وجه ، خاصة من وجه ، قالوا : فإذا أمكن دخول بعض الصور في عموم الآيتين ، يعني إعمالا للعموم في مقتضاه .
فإذا اعتدت أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما .
[ ص: 531 ] والجمهور أجابوا عن هذا بثلاثة أجوبة .
أحدها : أن صريح السنة يدل على اعتبار الحمل فقط ، كما في " الصحيحين " : سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى ، فوضعت ، فأرادت أن تنكح ، فقال لها أبو السنابل : ما أنت بناكحة حتى تعتدي آخر الأجلين ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " كذب أبو السنابل ، قد حللت فانكحي من شئت " . أن
الثاني أن قوله : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] نزلت بعد قوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] وهذا جواب ، كما في " صحيح عبد الله بن مسعود " عنه : أتجعلون عليها التغليظ ، ولا تجعلون لها الرخصة ، أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى : ( البخاري وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) [ الطلاق : 4 ] .
وهذا الجواب يحتاج إلى تقرير ، فإن ظاهره أن آية الطلاق مقدمة على آية البقرة لتأخرها عنها ، فكانت ناسخة لها ، ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعم منه عند المتأخرين ، فإنهم يريدون به ثلاثة معان .
أحدها : رفع الحكم الثابت بخطاب .
الثاني : رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص ، وإما بتقييد ، وهو أعم مما قبله .
الثالث : بيان المراد باللفظ الذي بيانه من خارج ، وهذا أعم من المعنيين [ ص: 532 ] الأولين ، رضي الله عنه أشار بتأخر نزول سورة الطلاق ، إلا أن آية الاعتداد بوضع الحمل ناسخة لآية البقرة إن كان عمومها مرادا ، أو مخصصة لها إن لم يكن عمومها مرادا ، أو مبينة للمراد منها ، أو مقيدة لإطلاقها ، وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ، ورسوخه في العلم ، ومما يبين أن أصول الفقه سجية للقوم ، وطبيعة لا يتكلفونها ، كما أن العربية والمعاني والبيان وتوابعها لهم كذلك ، فمن بعدهم فإنما يجهد نفسه ليتعلق بغبارهم وأنى له ؟ ! فابن مسعود
الثالث : أنه لو لم تأت السنة الصريحة باعتبار الحمل ، ولم تكن آية الطلاق متأخرة ، لكان تقديمها هو الواجب لما قررناه أولا من جهات العموم الثلاثة فيها ، وإطلاق قوله ( يتربصن ) ، وقد كانت الحوالة على هذا الفهم ممكنة ، ولكن لغموضه ودقته على كثير من الناس ، أحيل في ذلك الحكم على بيان السنة ، وبالله التوفيق .