قال من نص : أنها الحيض : الدليل عليه وجوه .
أحدها : أن قوله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) [ البقرة : 228 ] إما أن يراد به الأطهار فقط ، أو الحيض فقط ، أو مجموعهما .
والثالث : محال إجماعا ، حتى عند من يحمل اللفظ المشترك على معنييه . وإذا تعين حمله على أحدهما ، فالحيض أولى به لوجوه .
أحدها : أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قرآن ، ولحظة من الثالث ، وإطلاق الثلاثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلاثة في العدد المخصوص .
فإن قلتم : بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل ، قيل : جوابه من ثلاثة أوجه .
أحدها : أن هذا مختلف فيه كما تقدم ، فلم تجمع الأمة على أن بعض قرء قط ، فدعوى هذا يفتقر إلى دليل . القرء
الثاني : أن هذا دعوى مذهبية ، أوجب حمل الآية عليها إلزام كون الأقراء الأطهار ، والدعاوى المذهبية لا يفسر بها القرآن ، وتحمل عليها اللغة ، ولا يعقل في اللغة قط أن اللحظة من الطهر تسمى قرءا كاملا ، ولا اجتمعت الأمة على ذلك ، فدعواه لا تثبت نقلا ولا إجماعا ، وإنما هو مجرد الحمل ، ولا ريب أن الحمل شيء ، والوضع شيء آخر ، وإنما يفيد ثبوت الوضع لغة أو شرعا أو عرفا .
[ ص: 537 ] الثالث : أن القرء إما أن يكون اسما لمجموع الطهر ، كما يكون اسما لمجموع الحيضة أو لبعضه ، أو مشتركا بين الأمرين اشتراكا لفظيا ، أو اشتراكا معنويا ، والأقسام الثلاثة باطلة فتعين الأول ، أما بطلان وضعه لبعض الطهر ، فلأنه يلزم أن يكون الطهر الواحد عدة أقراء ، ويكون استعمال لفظ " القرء " فيه مجازا .
وأما بطلان الاشتراك المعنوي ، فمن وجهين ، أحدهما : أنه يلزم أن يصدق على الطهر الواحد أنه عدة أقراء حقيقة .
والثاني : أن نظيره - وهو الحيض - لا يسمى جزؤه قرءا اتفاقا ، ووضع القرء لهما لغة لا يختلف ، وهذا لا خفاء به .
فإن قيل : نختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركا بين كله وجزئه اشتراكا لفظيا ، ويحمل المشترك على معنييه ، فإنه أحفظ ، وبه تحصل البراءة بيقين . قيل الجواب من وجهين . أحدهما : أنه لا يصح اشتراكه كما تقدم .
الثاني : أنه لو صح اشتراكه ، لم يجز حمله على مجموع معنييه . أما على قول من لا يجوز حمل المشترك على معنييه ، فظاهر ، وأما من يجوز حمله عليهما ، فإنما يجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معا . فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل على إرادة أحدهما ، أو إرادتهما ، وحكى المتأخرون عن ، والقاضي الشافعي أبي بكر ، أنه إذا تجرد عن القرائن ، وجب حمله على معنييه ، كالاسم العام ؛ لأنه أحوط ، إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر ، ولا سبيل إلى معنى ثالث ، وتعطيله غير ممكن ، ويمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة .
فإذا جاء وقت العمل ، ولم يتبين أن أحدهما هو المقصود بعينه ، علم أن الحقيقة غير مرادة ، إذ لو أريدت لبينت ، فتعين المجاز ، وهو مجموع المعنيين ، ومن يقول : إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول : لما لم يتبين أن المراد أحدهما علم أنه أراد كليهما .
قال رحمه الله : في هذه الحكاية عن شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي نظر ، أما القاضي ، فمن أصله الوقف في صيغ العموم ، وأنه لا يجوز حملها على الاستغراق إلا بدليل ، فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالاستغراق من غير دليل ؟ وإنما الذي ذكره في كتبه إحالة [ ص: 538 ] الاشتراك رأسا ، وما يدعى فيه الاشتراك ، فهو عنده من قبيل المتواطئ ، وأما الشافعي ، فمنصبه في العلم أجل من أن يقول مثل هذا ، وإنما استنبط هذا من قوله : إذا أوصى لمواليه تناول المولى من فوق ومن أسفل ، وهذا قد يكون قاله لاعتقاده أن المولى من الأسماء المتواطئة ، وأن موضعه القدر المشترك بينهما ، فإنه من الأسماء المتضايفة ، كقوله " الشافعي فعلي مولاه ولا يلزم من هذا أن يحكى عنه قاعدة عامة في الأسماء التي ليس من معانيها قدر مشترك أن تحمل عند الإطلاق على جميع معانيها ، ثم الذي يدل على فساد هذا القول وجوه . من كنت مولاه
أحدها : أن استعمال اللفظ في معنييه إنما هو مجاز ، إذ وضعه لكل واحد منهما على سبيل الانفراد هو الحقيقة ، واللفظ المطلق لا يجوز حمله على المجاز ، بل يجب حمله على حقيقته .
الثاني : أنه لو قدر أنه موضوع لهما منفردين ، ولكل واحد منهما مجتمعين ، فإنه يكون له حينئذ ثلاثة مفاهيم ، فالحمل على أحد مفاهيمه دون غيره بغير موجب ممتنع .
الثالث : أنه حينئذ يستحيل حمله على جميع معانيه ، إذ حمله على هذا وحده ، وعليهما معا مستلزم للجمع بين النقيضين ، فيستحيل حمله على جميع معانيه ، وحمله عليهما معا حمل له على بعض مفهوماته ، فحمله على جميعها يبطل حمله على جميعها .
[ ص: 539 ] الرابع : أن هاهنا أمورا . أحدها : هذه الحقيقة وحدها ، والثاني : الحقيقة الأخرى وحدها ، والثالث : مجموعهما ، والرابع : مجاز هذه وحدها ، والخامس : مجاز الأخرى وحدها ، والسادس : مجازهما معا ، والسابع : الحقيقة وحدها مع مجازها ، والثامن : الحقيقة مع مجاز الأخرى . والتاسع : الحقيقة الواحدة مع مجازهما ، والعاشر : الحقيقة الأخرى مع مجازها ، والحادي عشر : مع مجاز الأخرى ، والثاني عشر : مع مجازهما ، فهذه اثنا عشر محملا بعضها على سبيل الحقيقة ، وبعضها على سبيل المجاز ، فتعيين معنى واحد مجازي دون سائر المجازات والحقائق ترجيح من غير مرجح ، وهو ممتنع .
الخامس : أنه لو وجب حمله على المعنيين جميعا لصار من صيغ العموم ؛ لأن حكم الاسم العام وجوب حمله على جميع مفرداته عند التجرد من التخصيص ، ولو كان كذلك ، لجاز استثناء أحد المعنيين منه ، ولسبق إلى الذهن منه عند الإطلاق العموم ، وكان المستعمل له في أحد معنييه بمنزلة المستعمل للاسم العام في بعض معانيه ، فيكون متجوزا في خطابه غير متكلم بالحقيقة ، وأن يكون من استعمله في معنييه غير محتاج إلى دليل ، وإنما يحتاج إليه من نفى المعنى الآخر ، ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك في صيغ العموم ، ولا ينفي الإجمال عنه ، إذ يصير بمنزلة سائر الألفاظ العامة ، وهذا باطل قطعا ، وأحكام الأسماء المشتركة لا تفارق أحكام الأسماء العامة ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من اللغة ، ولكانت الأمة قد أجمعت في هذه الآية على حملها على خلاف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أحد منهم إلى حمل " القرء " على الطهر والحيض معا ، وبهذا يتبين بطلان قولهم : حمله عليهما أحوط ، فإنه لو قدر حمل الآية على ثلاثة من الحيض والأطهار ، لكان فيه خروج عن الاحتياط .
وإن قيل : نحمله على ثلاثة من كل منهما ، فهو خلاف نص القرآن إذ تصير الأقراء ستة . [ ص: 540 ] قولهم : إما أن يحمل على أحدهما بعينه ، أو عليهما إلى آخره قلنا : مثل هذا لا يجوز أن يعرى عن دلالة تبين المراد منه كما في الأسماء المجملة ، وإن خفيت الدلالة على بعض المجتهدين ، فلا يلزم أن تكون خفية عن مجموع الأمة ، وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث ، فالكلام ، إذا لم يكن مطلقه يدل على المعنى المراد ، فلا بد من بيان المراد .