واختلف الفقهاء في مسألة مبنية على قصة ، وهي أن عائشة ، فهل ترفض الإحرام بالعمرة ، وتهل بالحج مفردا ، أو تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول فقهاء المرأة إذا أحرمت بالعمرة ، فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف الكوفة ، منهم وأصحابه ، وبالثاني : فقهاء أبو حنيفة الحجاز ، منهم : الشافعي ومالك ، وهو مذهب أهل الحديث وأتباعه . كالإمام أحمد
قال الكوفيون : ثبت في " الصحيحين " ، عن عروة ( أنها قالت : " أهللت بعمرة فقدمت عائشة مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة . قالت : ففعلت فلما قضيت الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع إلى عبد الرحمن بن أبي بكر التنعيم ، فاعتمرت منه . فقال : " هذه مكان عمرتك ) . قالوا : فهذا يدل على أنها كانت متمتعة ، وعلى [ ص: 157 ] أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " دعي عمرتك " ، ولقوله : ( عن ) . ولو كانت باقية على إحرامها ، لما جاز لها أن تمتشط ، ولأنه قال للعمرة التي أتت بها من انقضي رأسك وامتشطي التنعيم : " هذه مكان عمرتك " . ولو كانت عمرتها الأولى باقية لم تكن هذه مكانها ، بل كانت عمرة مستقلة .
قال الجمهور : لو تأملتم قصة حق التأمل ، وجمعتم بين طرقها وأطرافها ، لتبين لكم أنها قرنت ، ولم ترفض العمرة ، ففي " صحيح عائشة " : عن مسلم جابر - رضي الله عنه - قال : ( بعمرة حتى إذا كانت عائشة بسرف عركت ، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فوجدها تبكي ، فقال : " ما شأنك " ؟ قالت : شأني أني قد حضت وقد أحل الناس ولم أحل ، ولم أطف عائشة بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج " ، ففعلت ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة . ثم قال : " قد حللت من حجك وعمرتك " ، قالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : " فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ) . أهلت
وفي " صحيح " : من حديث مسلم عنها : ( طاووس ) . أهللت بعمرة ، وقدمت ولم أطف حتى حضت ، فنسكت المناسك كلها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر : يسعك طوافك لحجك وعمرتك
فهذه نصوص صريحة ، أنها كانت في حج وعمرة لا في حج مفرد ، وصريحة في أن ، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة ، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه . وفي بعض ألفاظ [ ص: 158 ] الحديث : ( القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد ) ، ولا يناقض هذا قوله : " دعي عمرتك " . فلو كان المراد به رفضها وتركها ، لما قال لها : ( كوني في عمرتك ، فعسى أن الله يرزقكيها ) ، فعلم أن المراد دعي أعمالها ليس المراد به رفض إحرامها . يسعك طوافك لحجك وعمرتك
وأما قوله : ( ) ، فهذا مما أعضل على الناس ، ولهم فيه أربعة مسالك . انقضي رأسك وامتشطي
أحدها : أنه دليل على رفض العمرة كما قالت الحنفية .
المسلك الثاني : إنه دليل على أنه يجوز ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه ، وهذا قول للمحرم أن يمشط رأسه وغيره . ابن حزم
المسلك الثالث : تعليل هذه اللفظة ، وردها بأن عروة انفرد بها ، وخالف بها سائر الرواة ، وقد روى حديثها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد روى ، عن حماد بن زيد ، عن أبيه عن هشام بن عروة حديث حيضها في الحج ، فقال فيه : حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( عائشة ) ، وذكر تمام الحديث . .. قالوا : فهذا يدل على أن دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي عروة لم يسمع هذه الزيادة من . عائشة
المسلك الرابع : أن قوله " دعي العمرة " ، أي دعيها ، بحالها لا تخرجي منها ، وليس المراد تركها ، قالوا : ويدل عليه وجهان .
أحدهما : قوله : ( ) . يسعك طوافك لحجك وعمرتك
الثاني : قوله : " كوني في عمرتك " . قالوا : وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قوله : " هذه مكان عمرتك أحبت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها ، وأن [ ص: 159 ] عمرتها قد دخلت في حجها ، فصارت قارنة ، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولا ، فلما حصل لها ذلك ، قال : " هذه مكان عمرتك " . فعائشة
وفي " سنن الأثرم " ، عن الأسود ، قال : قلت : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : والله ما كانت عمرة ، ما كانت إلا زيارة زرت لعائشة البيت .
قال : إنما أعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمام أحمد حين ألحت عليه ، فقالت : يرجع الناس بنسكين ، وأرجع بنسك ؟ فقال : " يا عائشة عبد الرحمن ؛ أعمرها " ، فنظر إلى أدنى الحل ، فأعمرها منه .