وأيضا ، فإذا رأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه فعله وأمر به ، فقال بعضهم : إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم هو باق إلى الأبد ، فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل ، فلا يقبل إلا ببرهان ، وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه ، والحجة تفصل بين المتنازعين ، والواجب الرد عند التنازع إلى الله ورسوله . فإذا قال أبو ذر وعثمان : إن الفسخ منسوخ أو خاص ، وقال أبو موسى : إنه باق وحكمه عام ، فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل . وعبد الله بن عباس
[ ص: 179 ] وأما حديثه المرفوع - حديث بلال بن الحارث - فحديث لا يكتب ، ولا يعارض بمثله تلك الأساطين الثابتة .
قال عبد الله بن أحمد : كان أبي يرى بالبيت وبين للمهل بالحج أن يفسخ حجه إن طاف الصفا والمروة . وقال في المتعة : هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( ) . قال اجعلوا حجكم عمرة عبد الله : فقلت لأبي : فحديث بلال بن الحارث في ، يعني قوله " لنا خاصة " ؟ قال : لا أقول به ، لا يعرف هذا الرجل ، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ، ليس حديث فسخ الحج بلال بن الحارث عندي يثبت . هذا لفظه .
قلت : ومما يدل على صحة قول ، وأن هذا الحديث لا يصح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر عن تلك المتعة التي أمرهم أن يفسخوا حجهم إليها أنها لأبد الأبد ، فكيف يثبت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ؟ هذا من أمحل المحال . وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول : ( الإمام أحمد ) ، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون من بعدهم ، فنحن نشهد بالله أن حديث دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة بلال بن الحارث هذا ، لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو غلط عليه ، وكيف تقدم رواية بلال بن الحارث على روايات الثقات الأثبات حملة العلم الذين رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خلاف روايته .
ثم كيف يكون هذا ثابتا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - - رضي الله عنه - يفتي بخلافه . ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام ، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - متوافرون ، ولا يقول له رجل واحد منهم : هذا كان مختصا بنا ، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة أن وابن عباس أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ؟
وأما قول عثمان - رضي الله عنه - في متعة الحج : إنها كانت لهم ليست [ ص: 180 ] لغيرهم فحكمه حكم قول أبي ذر سواء على أن المروي عن أبي ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أمور .
أحدها : اختصاص جواز ذلك بالصحابة ، وهو الذي فهمه من حرم الفسخ .
الثاني : اختصاص وجوبه بالصحابة ، وهو الذي كان يراه شيخنا - قدس الله روحه - يقول : إنهم كانوا قد فرض عليهم الفسخ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم به وحتمه عليهم ، وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله . وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة ، لكن أبى ذلك البحر ، وجعل الوجوب للأمة إلى يوم القيامة ، وأن فرضا على كل مفرد وقارن لم يسق الهدي ، أن يحل ولا بد ، بل قد حل وإن لم يشأ ، وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا . ابن عباس
الاحتمال الثالث : أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي ، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يسق الهدي ، والقران لمن ساق ، كما صح عنه ذلك . وإما أن يحرم بحج مفرد ، ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة ، ويجعله متعة ، فليس له ذلك ، بل هذا إنما كان للصحابة ، فإنهم ابتدءوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالتمتع والفسخ إليه ، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه ، لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد ، ثم يفسخه .
وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول ، أو مساويين له ، وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة ، وبالله التوفيق .
وأما ما رواه في " صحيحه " : عن مسلم أبي ذر ، أن كانت لهم خاصة . فهذا إن أريد به أصل المتعة ، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين [ ص: 181 ] بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة . وإن أريد به متعة الفسخ ، احتمل الوجوه الثلاثة المتقدمة . وقال المتعة في الحج الأثرم في " سننه " : وذكر لنا أن أحمد بن حنبل حدثه عن عبد الرحمن بن مهدي سفيان ، عن ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي أبي ذر ، في متعة الحج كانت لنا خاصة . فقال : رحم الله أحمد بن حنبل أبا ذر هي في كتاب الله عز وجل : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) [ البقرة 196 ] .
قال المانعون من الفسخ : قول أبي ذر وعثمان : إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة ، لا يقال مثله بالرأي ، فمع قائله زيادة علم خفيت على من ادعى بقاءه وعمومه ، فإنه مستصحب لحال النص بقاء وعموما ، فهو بمنزلة صاحب اليد في العين المدعاة ، ومدعي فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البينة التي تقدم على صاحب اليد .
قال المجوزون للفسخ : هذا قول فاسد لا شك فيه ، بل هذا رأي لا شك فيه ، وقد صرح - بأنه رأي من هو أعظم من عثمان وأبي ذر - ، ففي " الصحيحين " ، واللفظ عمران بن حصين : تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ونزل القرآن ، فقال رجل برأيه ما شاء . ولفظ للبخاري : ( مسلم ) ، وفي لفظ : يريد نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم لم تنزل آية تنسخ متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء عمر .
وقال لمن سأله عنها ؛ وقال له إن أباك نهى عنها : أأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحق أن يتبع أو أمر أبي ؟ ! عبد الله بن عمر
[ ص: 182 ] ( وقال لمن كان يعارضه فيها ابن عباس بأبي بكر وعمر : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر ) . فهذا جواب العلماء لا جواب من يقول عثمان وأبو ذر أعلم برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منكم ، فهلا قال ، ابن عباس : وعبد الله بن عمر أبو بكر وعمر أعلم برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منا ، ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من التابعين يرضى بهذا الجواب في دفع نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا أعلم بالله ورسوله ، وأتقى له من أن يقدموا على قول المعصوم رأي غير المعصوم ، ثم قد ثبت النص عن المعصوم بأنها باقية إلى يوم القيامة ، وقد قال ببقائها : رضي الله عنه ، علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وابن عباس وأبو موسى ، ، وجمهور التابعين وسعيد بن المسيب
ويدل على أن ذلك رأي محض لا ينسب إلى أنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن - رضي الله عنه - لما نهى عنها قال له عمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ! ما أحدثت في شأن النسك ؟ فقال : إن نأخذ بكتاب ربنا ، فإن الله يقول : ( أبو موسى الأشعري وأتموا الحج والعمرة لله ) [ البقرة 196 ] ، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يحل حتى نحر ، فهذا اتفاق من أبي موسى وعمر على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداء ، إنما هو رأي منه أحدثه في النسك ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن استدل له بما استدل .
وأبو موسى كان يفتي الناس بالفسخ في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - كلها ، وصدرا من خلافة عمر حتى فاوض عمر - رضي الله عنه - في نهيه عن ذلك ، واتفقا على أنه رأي أحدثه عمر - رضي الله عنه - في النسك ، ثم صح عنه الرجوع عنه .