[ ص: 325 ] فصل
من ذلك " نهيه صلى الله عليه وسلم أن ، ولكن ليقل : لقست نفسي " ومعناهما واحد ؛ أي : غثت نفسي ، وساء خلقها ، فكره لهم لفظ الخبث ؛ لما فيه من القبح والشناعة ، وأرشدهم إلى استعمال الحسن ، وهجران القبيح ، وإبدال اللفظ المكروه بأحسن منه . يقول الرجل : خبثت نفسي
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن ، وقال : قول القائل بعد فوات الأمر : ( لو أني فعلت كذا وكذا ) وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة ، وهو أن يقول : ( إن لو تفتح عمل الشيطان ) وذلك لأن قوله لو كنت فعلت كذا وكذا ، لم يفتني ما فاتني ، أو لم أقع فيما وقعت فيه ، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة ، فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته ب " لو " وفي ضمن " لو " ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ، فإن ما وقع مما يتمنى خلافه ، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته ، فإذا قال : لو أني فعلت كذا ، لكان خلاف ما وقع فهو محال ، إذ خلاف المقدر المقضي محال ، فقد تضمن كلامه كذبا وجهلا ومحالا ، وإن سلم من التكذيب بالقدر ، لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت كذا ، لدفعت ما قدر الله علي . قدر الله وما شاء فعل
[ ص: 326 ] فإن قيل : ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر ، فهو يقول : لو وقفت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء ، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد ، فكلاهما من القدر .
قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه ، وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر ، فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به ، أو يخفف أثر ما وقع ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحب الكيس ويأمر به
والكيس : هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير ، وأما العجز ، فإنه يفتح عمل الشيطان ، فإنه إذا عجز عما ينفعه ، وصار إلى الأماني الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عليه عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل ، ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما ، وهما مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم ، والحزن والجبن ، والبخل وضلع الدين ، وغلبة الرجال ، فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها " لو " فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ) فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن التمني رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر . فإن " لو " تفتح عمل الشيطان
وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي ، وتحول بينه وبينها ، فيقع في المعاصي ، فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ، ومباديه وغاياته ، وموارده ومصادره ، وهو مشتمل على ثماني خصال ، كل خصلتين منها قرينتان ، فقال : ( ) وهما قرينان فإن المكروه الوارد [ ص: 327 ] على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين ، فإنه إما أن يكون سببه أمرا ماضيا ، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز ، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ؛ بل بالرضى ، والحمد والصبر والإيمان بالقدر ، وقول العبد قدر الله وما شاء فعل . أعوذ بك من الهم والحزن
وما يستقبل لا يدفع أيضا بالهم ، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه ، فلا يعجز عنه ، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة به ، ويستجن بجنة حصينة من التوحيد والتوكل ، والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له والرضى به ربا في كل شيء ، ولا يرضى به ربا فيما يحب دون ما يكره ، فإذا كان هكذا ، لم يرض به ربا على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبدا على الإطلاق ، فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة ، بل مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد ، فيما ينفعه ويقطعان عليه طريق السير ، أو ينكسانه إلى وراء ، أو يعوقانه ويقفانه ، أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه ، وجد في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر ، بل إن عاقه الهم والحزن عن شهواته وإراداته التي تضره في معاشه ومعاده انتفع به من هذا الوجه
وهذا من حكمة العزيز الحكيم ، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته ، [ ص: 328 ] وخوفه ورجائه ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ؛ ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم ، والأحزان والآلام القلبية ، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية ، وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار ، وإن أريد بها الخير ، كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد ، والإقبال على الله ، والأنس به
وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه ، وخوفه ورجاؤه ، والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب ، الغالب عليه ، الذي متى فقده فقد قوته ، الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام ، التي هي أعظم أمراضه ، وأفسدها له ، إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر ، هيأه له ، فمنه الإيجاد ، ومنه الإعدام ، ومنه الإمداد ، وإذا أقامه في مقام ، أي مقام كان ، فبحمده أقامه فيه ، وبحكمته أقامه فيه ، ولا يليق به غيره ، ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقا هو للعبد ، فيكون بمنعه ظالما له ؛ بل إنما منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعبده ، وليتضرع إليه ، ويتذلل بين يديه ، ويتملقه ، ويعطي فقره إليه حقه ، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ، فاقة تامة إليه ، على تعاقب الأنفاس ، وهذا هو الواقع في نفس الأمر ، وإن لم يشهده العبد ، فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه ، بخلا منه ، ولا نقصا من خزائنه ، ولا استئثارا عليه بما هو حق للعبد ؛ بل منعه ليرده إليه ، وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه ، وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له ، ولذة الفقر إليه ، وليلبسه خلعة العبودية ، ويوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره .
وأن منعه عطاء ، وعزله تولية ، وعقوبته تأديب ، وامتحانه محبة وعطية ، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه به إليه .
[ ص: 329 ] وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه ، وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ، ولا يحسن أن يتخطاه ، والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه وفضله ، و ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [الأنعام : 53] فهو سبحانه أعلم بمواقع الفضل ، ومحال التخصيص ، ومحال الحرمان ، فبحمده وحكمته أعطى ، وبحمده وحكمته حرم ، فمن رده المنع إلى الافتقار إليه ، والتذلل له ، وتملقه ، انقلب المنع في حقه عطاء ، ومن شغله عطاؤه ، وقطعه عنه انقلب العطاء في حقه منعا ، فكل ما شغل العبد عن الله فهو مشئوم عليه
وكل ما رده إليه فهو رحمة به ، والرب تعالى يريد من عبده أن يفعل ، ولا يقع الفعل حتى يريد سبحانه من نفسه أن يعينه ، فهو سبحانه أراد منا الاستقامة دائما ، واتخاذ السبيل إليه ، وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا عليها ، ومشيئته لنا ، فهما إرادتان : إرادة من عبده أن يفعل وإرادة من نفسه أن يعينه ، ولا سبيل له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة ، ولا يملك منها شيئا ، كما قال تعالى : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) [ التكوير : 29 ] فإن كان مع العبد روح أخرى ، نسبتها إلى روحه ، كنسبة روحه إلى بدنه ، يستدعي بها إرادة الله من نفسه ، أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلا ، وإلا فمحله غير قابل للعطاء ، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء ، فمن جاء بغير إناء رجع بالحرمان ، ولا يلومن إلا نفسه .
والمقصود أن ، وهما قرينان ، ومن العجز والكسل ، وهما قرينان ، فإن تخلف كمال العبد وصلاحه عنه ، إما أن يكون لعدم قدرته عليه ، فهو عجز ، أو يكون قادرا عليه ، لكن لا يريد ، فهو كسل ، وينشأ عن هاتين الصفتين فوات كل خير ، وحصول كل شر ، ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه ، وهو الجبن ، وعن النفع بماله وهو البخل ، ثم ينشأ له بذلك غلبتان. غلبة بحق ، وهي غلبة الدين ، وغلبة بباطل ، وهي غلبة الرجال ، وكل هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الهم والحزن
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح للرجل الذي [ ص: 330 ] قضى عليه ، فقال ( حسبي الله ونعم الوكيل ) فقال : ( ) فهذا قال ( إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل ) بعد عجزه عن الكيس ، الذي لو قام به ، لقضي له على خصمه ، فلو فعل الأسباب التي يكون بها كيسا ، ثم غلب فقال : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) لكانت الكلمة قد وقعت موقعها ، كما أن إبراهيم الخليل ، لما فعل الأسباب المأمور بها ، ولم يعجز بتركها ، ولا بترك شيء منها ، ثم غلبه عدوه ، وألقوه في النار ، قال في تلك الحال : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) فوقعت الكلمة موقعها ، واستقرت في مظانها ، فأثرت أثرها ، وترتب عليها مقتضاها .